بينما كنت أمضغ طعامي بسرعة حتى لا نتأخر، وأرتشف القهوة بين الحين والآخر، رأيته يدخل مقهى السعادة بنفس تلك الإبتسامة التي رأيتها آخر مرة، وقف أمام "الكاشير" وبدأ بالتحدث مع إيمي، لا أعرف إذا كان المقهى هادئاً أم هدأ كل شيء بدخوله إلى هنا، أنا مدركة أنني الآن لا أرى شخصاً آخر سواه، عادت بي الذاكرة إلى أسابيع قد مضت.
في ذلك اليوم كنت أنتظر إليشيا و جي-سان وأنا أجلس بالقرب من نافورة الجامعة، كانت أشجار الخريف الملونة مريحة جداً فلم أرغب بأن أنتظرهما في مكان مغلق، هنا الهواء عليل، والمنظر أمامي كأنه صورة مرسومة لنافورة مياه، وأشجار ملونة وطلاب.
كنت مشغولة بالانتهاء من اللمسات الأخيرة على البحث الذي يجب أن أسلمه اليوم حينما بَدَأتُ بسماع صوت شخص يتحدث بجانبي ولكن لم أرفع عيني عن شاشة "الابتوب"، بعد ثوانٍ معدودة ... أيقنت بأن الحديث كان موجاً إليّ أنا، فنظرت بطرف عيني فقط دون أن أرفع رأسي لشاب أمريكي، كان يتحدث عن حجابي وسبب وجودي هنا ولماذا لا أعود لبلادي، وهكذا.
لم أعتد على أن يتحدث معي أحد بهذا الأسلوب، يبدو أنه لم يكن في وعيه! .. لذلك أكملت الطباعة ولكن بتوتر أكثر، فلم يكن هناك أحد معي، وراودتني أفكار عديدة شتتني عن بحثي، زاد معدل خفقان قلبي، ورغم برودة الجو إلا أنني أحسست بحبات العرق تنزل على رقبتي من شدة التوتر وللأسف "الخوف".
تظاهرت بأنني لا أعيره أي اهتمام، وكل ما فعلته هو الضغط على (حفظ) وأغلقت الابتوب. وعندما أخذت حقيبتي وهممت بالرحيل من هذا المكان، بدأ صوته يرتفع أكثر فأكثر، أخبرته بأن يبتعد عني وأن لا يتحدث معي، حاولت أن أخبره أنني طالبة هنا، ولكنه استمر بالصراخ حتى لفت نظر الطلبة. عضضت على شفتي وأنا أشعر برهبه ولا أعرف ما الذي عليّ فعله. وعندما بدأ بالاقتراب مني، ابتعدت أنا عنه! .. فما كان منه إلا أن حاول أن يلمس حجابي.
عندها فقط جاء أحدهم ليقف بيني وبينه ويدفعه عني بعيداً، ارتفعت اصواتهما ولم أكن أعي ما يحدث حولي بالضبط، حتى جاء هذا الشخص وهو يتحدث إلي بلغة انجليزية أنيقة (لا تخافي، إنه ثمل!) ...أطرقت رأسي بخجل وألم، وأكمل (لا بأس، لقد ذهب الآن) ... عندها وصلت إليشيا ووقفت بجانبي دون أن تتحدث .. شَكَرْتُه بلغة إنجليزية أيضاً، وأخبرته أنني كنت انتظر صديقاتي، عندما بدأ هذا الغريب بالصراخ عليّ دون سبب.
ضحك هو، وأخبرني مرة أخرى بلغة ساخرة (إنه ثمل حد الثمالة! ماذا تنتظرين منه!)، رفعت رأسي على صوت ضحكته والتقت عيني بعينه شعرت لوهله أن الزمن قد توقف هنا! فالتَفَتُ بعيداً بتوتر وأنا أوجه الحديث لإليشيا (ضايقني أحدهم وساعدني هذا الشاب) .. ابتسمت إليشيا ابتسامتها الجميلة ونظرت إليه (شكراً لك، يبدو أنك المنقذ! ليلى لا تحسن التصرف في هذه المواقف)!!
تباً لكِ يا إليشيا!! لماذا ذكرتي اسمي امامه! .. نظرت إليها نظرة تهديد! فضحك هو وسأل: (من أين أنتم؟) .. ضمت إليشيا كفيها إلى بعضهما البعض كما تفعل حين تصلي وقالت (نماستي! .. أنا من الهند .. أما صديقتي ... ) هنا وكزتها بكوعي حتى لا تكمل!، وأخبرته أنني (مسلمة!) .. ابتسم هو ابتسامة أعتقد أنه ظن أنني لم أفهم سؤاله، أو فهم مقصدي بأنني لا أحب أن أتحدث أكثر، حينها رأينا جي-سان من بعيد، فشكرته مرة أخرى وسحبت إليشيا من يدها لأجبرها على الذهاب معي إلى جي-سان، فقد أتت في الوقت المناسب.
ظلت إليشيا تسألني عن أدق التفاصيل عدة أيام، وأخبرتها مراراً وتكراراً بالقصة وأنني لم أره جيداً ليعجبني أم لا. كانت إليشيا غاضبة لأننا لم نسأله عن اسمه أو من أي بلد يكون! .. وكانت تحيك وتنسج قصص خيالية قائلة (قيس وليلى في نيويورك) .. إليشيا لم تكن لتهدأ حتى استطاعت أن تعرف بعض المعلومات عنه! .. هو من نفس بلدي! .. مبتعث في كلية العلوم السياسية، يكبرنا في العمر ولكنه الأقرب لعمري أنا! .. بعد هذه الحادثة لم نره إلا مرة واحدة في مكتبة الجامعة، كنت أقف بعيداً عندما قامت إليشيا بالقاء التحية عليه وتبادلت معه الحديث! ..
(هيا يا ليلى!!! .. انك لم تمضغي الطعام الذي في فمك ولم تنتهي من القهوة التي أمامك!! إن الحافلة على وشك الوصول!) .. هكذا استيقظت على صوت جي-سان الرقيق، واغمضت عيني سريعا ثم نظرت إلى إليشيا التي يبدو لي أنها كانت تنظر إلي وتضحك في الفترة التي غبت عنهما "فكريا"، عندها نظرت إلي إليشيا وغمزت بغمزة خبيثة وهي تقول: (منذ أن دخل أحمد إلى هنا وأنتي في عالم آخر، لقت التقطت لكِ صورة للذكرى) .. هنا شعرت بإحراج شديد!! شعرت بالدم يفور في وجنتيّ (يالكِ من سخيفة يا إليشيا!!)، (أجابت وهي تضحك، على العموم هيا بنا وصلت الحافلة).
قمت بتفقد وجهي من خلال مرآتي الصغيرة، ثم تفقد ملابسي ومظهري، ولم تستطع إليشيا أن تتركني في حالي! .. (إنك جميلة لا حاجة لكل هذا!!) .. تباً لك يا إليشيااااا!! نظرت إليها بتذمر وأنا أتحرك بتوتر وكأنني لم أرى "أحمد" الذي اختار طاولة بقرب الباب، لا أعرف إن كنت أتظاهر بعدم الاهتمام بسبب وجود إليشيا أم إنكاراً بأنني سعيدة لوجوده!
كان يعطينا ظهره لذلك لم يرانا! . وعندما اقتربنا من الباب، التفت أحمد وابتسم ثم هم واقفاً (ليلى؟ إليشيا!! ماذا تفعلون هنا!!) .... أجابته إليشيا بسرعة (مرحبا أحمد!! يال هذه الصدفة الجميلة!! هذا مقهانا المفضل نجتمع دائما هنا) .. نظر إلي أحمد وهو ينتظر رداً مني، فما كان مني إلا أن أومأت رأسي أحييه بابتسامة. أما جي سان فقد كانت تقف أمام الحافلة وهي تنادينا بغضب (أسرعوا!!) ... اعتذرنا من أحمد ودفعت إليشيا للتحرك قبل أن أعطي أحمد أو إليشيا أي فرصة للتحدث،،،!!
وهكذا ركبنا الحافلة وجلست إليشيا بجانبي لسبب أعرفه جيداً!! ستبدأ الآن جلسة التحقيق وتحليل الشخصية والأفلام الهندية لقصة (ليلى-مجنون) كما كانت تسميها!!!
No comments:
Post a Comment