أن أسمع جرس (السيكل) حتى أسرع بالركض إلى الباب، لآخذ منه الجرائد التي تصل إلى
يديّ ساخنة من الحرارة، وأستلم نسختي من مجلة ماجد التي كنت أنتظرها كل أربعاء.
قبل دخولي الروضه اعتدت لقاءه كل صباح، وبعدها اعتدت أن أراه لاستلام مجلة ماجد أو
في يوم الجمعه عندما يكون والدي فالمنزل لأحضر له الصحف. كانت مجلة ماجد تنزل
اصدارات مختلفة، حتى الآن أذكر (الطلبية الخاصه من محمد راعي الجرايد) فمجلة ماجد
قد اصدرت مجلد خاص جداً عن كسلان جداً .. وأحضر لي (محمد راعي الجرايد) تلك
النسخة.
بعد عدة سنوات انتقلنا الى منزل جديد في منطقة جديدة تماماً، كانت تصل الصحف أيام
الإجازات إلى أبي بواسطة شخص يعمل في الشركة، وفي الأيام العادية يحضرها أبي عندما
يعود معه وعليها بعض الرسومات والتوقيعات بقلمه الجاف ..
ذهبت إلى المدرسة الابتدائية، وبعد بضع سنين وعند سور المدرسة أنتظر السائق، رأيت
الفتيات يتجمعن هناك، هذه تشتري ملصقات، وتلك تشتري مجله، وأخرى تشتري حلوى،
اقتربت أكثر وفاجأني عندما ناداني باسمي، فضحكت: (أووه محمد هذا أنته؟)، اعتاد محمد
أن يقف أمام المدرسة بعد انتهاء الدوام، كنت من القلائل ان لم أكن الوحيدة التي تستطيع ان
تشتري منه بـ(سلف)، آخذ ما أريد وأرجع النقود متى أريد .. وغالبا كنت آخذ منه
الملصقات، مجلة ميكي، ومجلة ماجد.
انتقلت أيضا إلى الاعدادية، وكان محمد يقف عند انتهاء الدوام عند اخر سور المدرسة،
وتتجمع الطالبات دائما عنده، اعتدت ان اقف بمكان قريب منه حتى يأتي السائق، وتعرفت
وقتها على أعز صديقة لديّ، وكنا نقف في نفس المكان أيضاً، وفي تلك الفترة كنت دائماً
أصر على محمد أن لا ينسى مجلة (تحت العشرين) ومجلة (ماجد) وأن لا ينسى أن يحضر
لي شوكلاته (جاك)، في بعض الاحيان عندما يكون محمد مشغول مع الفتيات، كنت أمد يدي
وأخدم نفسي بنفسي، وأأشر له من بعيد بما أخذت، فيضحك ويهز رأسه بأنه رآني وسيتذكر
(الحساب).
اختفى محمد لفترة، شعرت بحزن شديد، حتى بعد انتقالنا لمنزلنا الجديد، اكتشفت بعدها ان
ابي يشتري الصحف كل صباح منه، لم أعرف أين هو! فلم يعد يقف في ذلك المكان!! ..
وعندما كنا نمر عند الاشارات، مكانه الذي اعتاد ان يشتري والدي منه الصحف لم نجده،
مرت سنة أو سنتان وذهبت إلى الثانوية، كنت أحمل حقيبتي الثقيلة حتى آخر سور المدرسة
مع صديقتي العزيزة، نقف هناك ونتبادل أطراف الحديث حتى تذهب كل واحد منا إلى بيتها.
بعد فترة وجدنا شخص يقف في آخر السور، قرب المكان الذي نقف فيه بانتظار السيارة،
رفعت غطاء وجهي قليلا لأتأكد، ركبت السيارة وسألت السائق (مب هذا محمد راعي
الجرايد؟) .. اجابني السائق بالنفي ودار الحديث التالي:
"لا هذا مافي محمد"
"لا هذا محمد!! حتى شوف وايد يشبه محمد راعي الجرايد كيف مب هو؟"
"هذا أخوه مال هوه، محمد مافي موجود"
"ليش وين سار محمد؟"
"شرطة إيجي، سوي ضرب مال هو"
"ليييييييييييييييييييييش حرام شيبه؟؟؟؟؟؟"
"مشان هو سوي بيع حلاوة، سوي ضرب محمد بعدين شيل كله جريده ومجله مال هو،
محمد الحين روح بلاد مشان تعبان"
يالله! كيف يضربون شخص ويصفعونه أمام عامة الناس وهو ليس صغير السن! محمد لم
أرى منه طول تلك السنين إلا كل خير، شعرت بالأسى والحزن ومضت الأيام. بعدها ذهبت
مع صديقتي للنتظر السياره التي تأخرت، فذهبت لأخوه لأشتري مجلة جديدة، ولكني
تفاجأت بأن الشخص الذي يبيع اليوم! ليس (ابراهيم)!! انما (محمد راعي الجرايد) وقفت
لوهله أنظر إليه، كم كبرت يا محمد! .. (استويت شيبه يا محمد) .. ابتسمت وتصفحت بعض
المجلات بهدوء وهو منشغل بالبيع، اخذت حاجتي كما اعتدت وانا صغيره، اخدم نفسك
بنفسك، استغرب محمد ونظر إليّ، لم يعرفني طبعا بسبب غطاء وجهي، ((محمد كيف
حالك؟ انت وين من زمان؟)) تهلل وجه محمد وضحك لقد عرفني وبدأ يسأني عن جميع
أفراد العائلة من الكبير حتى الصغير وحتى جدي (رحمة الله عليه).
في بعض الأحيان كان السائق يتأخر كثيرا حتى أكون انا الوحيده التي تقف امام السور
تنتظر الفرج! كان محمد يقف على مسافه ليست ببعيدة يرفض الذهاب، رغم ان المكان خالي
تماما من (الزبائن) .. كأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي! حتى يتأكد انني ركبت السيارة بسلام،
عندها يركب دراجته الهوائية ويذهب ليترزق في مكان آخر.
بعد الذهاب الى الجامعه لم أعد أرى محمد مطلقاً ولكنني عرفت ان ابي لا زال يشتري
صحفه كل صباح من عنده، وفي احدى المرات وبعد سنوات وجدت محمد يقف قرب
الدوار، ابتسمت عندما أوقف أبي السياره لشراء (الجريدة) وتبادل معه اطراف الحديث.
ولكن محمد هذه المره كان مختلف الشكل، لحيته طويلة حتى الصدر تشوبها البياض، قد
حفر الزمن على وجهه علامات كبر السن، ولكن ابتسامته الصادقة وتحيته المتلهفة لوالدي
لم تتغير منذ كنت صغيرة!
الآن وبعد سنين طويلة حقاً، التزمت البيت بعد التخرج، ولم اعد اخرج الا في اوقات معينة،
ولكن من فترة قريبه مررنا من ذلك الشارع لأرى من بعيد شخصا افترش الرصيف بمجلاته،
التفت انظر اليه مع سرعة السيارة، وكانت لمحة سريعة جداً، فسألت السائق كثيرا بعد
أن جاوز (راعي الجرايد) .. (أقول مب هذا محمد راعي الجرايد؟)، "هيه هذا محمد".
لا أدري لماذا شعرت بالسعادة عندما عرفت انه لا زال بخير وأنه موجود، فهو دائما يذكرني بطفولتي،
يذكرني بمجلة ميكي وماجد وتحت العشرين، يذكرني بهواية جمع الملصقات،
يذكرني دائما كيف كان ينتظر بعيداً حتى يتأكد أن سيارتي وصلت وسأذهب إلى المنزل بأمان.
ليوفقك الله يا محمد راعي الجرايد.