Monday, February 18, 2013

مقهى السعادة ،،،، (١٠)



استيقظت الساعة الخامسة صباحاً على صوت المنبه، أخذت نفساً عميقاً وأنا أحتضن وسادتي بكسل شديد، هنا في نيويورك أفتقد بشدة صوت الأذان، حيث أنني اعتدت على الاستيقاظ على صوت الأذان في مدينة أبوظبي دون الحاجة إلى منبه، وذلك لقرب المسجد من منزلنا.

أما هنا فقد اضطررت لاستخدام المنبه، بالنسبة لي لا يوجد تنبيهين بصوت واحد، فلصلاة الفجر يكون صوت المنبه زقزقة عصافير وصوت حفيف الأشجار، هكذا أستيقظ براحة دون فزع. بينما إذا كانت لدي مهام صباحية فالمنبه يكون بصوت أعلى ومزعج قليلاً، أما حينما يحين موعد الصلاة فإن لدي برنامجاً خاصاً قد ضبطت إعداداته لينبهني بصوت واحد فقط (تيت)! .. 

تقلبت قليلاً على فراشي الوثير، استرجعت ما حدث البارحة، وراجعت بشكل سريع خطتي التي سأنفذها اليوم، كل ذلك على صوت حفيف الأشجار الذي سمعته عدة  مرات أخرى لكسلي الشديد فالاستيقاظ، هذا رغم أنني قد نمت باكراً جداً على غير العادة وهنا تذكرت أنني لم أنتهِ من مهامي الدراسية؛ ولذلك قررت عدم العودة إلى فراشي بعد أداء الصلاة! ..

بعد أداء الصلاة وضعت سماعات "الايبود" في أذني وأنا أردد أذكار الصباح مع العفاسي، وفي نفس الوقت أعد لنفسي كوباً من القهوة وشطيرة من الجبن الذائب، انتهيت من تناول فطوري مع انتهاء الاذكار، وهنا وبتردد وخجل بيني وبين نفسي انتقلت من قائمة الأذكار إلى قائمة صباحات فيروزية قمت على أنغامها بترتيب غرفتي وتنظيف الأطباق وتجهيز جو الدراسة.

كانت خطتي كالتالي: أنتهي من الرتوش النهائية لآخر بحثين، أرسل بريد إلكتروني لجي-سان أذكرها بوضع الرتوش الأخيرة في بحثنا الأخير لتكون هي المسؤولة عن تسليمه، أذهب لمقهى السعادة وأشتري بعض الكعك المحلى لأحمد .. هممم حسناً لا استطيع أن أعطيه فاصل الكتب وحده! ولذلك قررت أن أهديه بعض من كعك جدتي الذي تعده خلال (الكريسماس) بأشكال جميلة وملونة .. ثم الذهاب إلى الجامعة رغم أنني لست مرتبطة بأي محاضرات إلزامية خلال الأيام المتبقية! .. هو فقط .. الفضول .. الشوق؟ ... لا أعرف .. في الحقيقة أردت أن أرى .. أحمد ..

عند الساعة التاسعة كنت قد انتهيت من آخر الرتوش الخاصة بدراستي، حتى أنني سلمت آخر بحثين عن طريق البريد الإلكتروني، ويتبقى فقط البحث الأخير الذي ستسلمه جي-سان، الآن لدي متسع من الوقت للتحضير للإمتحانات والتسوق قبل العودة إلى الدولة. أخبرتني إيليشيا أنها ستكون في الجامعة بعد الساعة العاشرة والنصف، ولذلك بدأت الاستعداد للذهاب.

اخرجت ملابساً عديدة كنت أبدل ما بينها! في كل مرة أجرب قميصاً أغيره باحثة عن الأجمل وهكذا مع بقية الملابس، حتى استقريت على قميص أسود ذا عنق مرتفع، ارتديت فوقه كنزة صوفية بلون قمحي أنيق وشال ذو أشكال هندسية بعدة ألوان منها القمحي والأسود، و"جينز" أسود، وأكملت ملابسي بحذائي الجلدي الأسود الطويل والمبطنة أطرافه بالفرو ، عندما ألبس هذا الحذاء أشعر أنني أنيقة حيث أنه يضيف بضعة سانتيمترات إلى طولي. 

ابتسمت عندما رأيت نفسي في المرآة "لمسات أخيرة" لم أكن أضعها سابقاً إلا في المناسبات، أخذت حقيبتي ثم اتجهت إلى جدتي التي ما إن رأتني حتى قالت (ليلى! تبدين سعيدة اليوم!) .. كلا يا جدتي! أنتي لا ترين السعادة في وجهي فقط أنتي ترين "الماسكرا، حمرة الخدود، وأحمر الشفاه الزهري"، ابتسمت لها وشكرتها، ثم أخذت منها الكعك وتوليت أنا تغليفه في علبة صغيرة وأوراق ملونة، فلا تمانع جدتي أن أخدم نفسي بنفسي في مقهى السعادة، ثم وضعت اللمسة الآخيرة وهي اللاصق الذي كتب عليه (هنا فقط الكعك والقهوة تجعلك تبتسم) ..

في الحافلة لم أكن أنظر لشوارع مدينة نيويورك مثل كل مرة، لم يشرد ذهني مع زينة الكريسماس ولوحات الشارع، بكل كنت أنظر إلى إلى علبة الكعك وأنا أبتسم .. يا ترى هل ستبتسم يا أحمد عندما تتناول كعك جدتي؟ .. هل ستتقبل هديتي؟ .. وكلما تعمقت في أفكاري كانت تتسع ابتسامتي معها، ابتداءً من هذه العلبة الصغيرة وحتى استلامه لها، توقفت الحافلة بالقرب من الجامعة وأخفيت علبتي الصغيرة في الحقيبة.

التقيت إيليشيا وجي-سان أمام باب الجامعة، لم تستطع إيليشيا أن تهدأ طوال الطريق إلى المسرح، فهي تلمس خدي، وتمسك بحقيبتي وتدور حولي وتنظر إليّ بتلك العينين الجميلتين بلؤم شديد وهي تسأل (لماذا كل هذا اليوم يا ليلى؟، تبدين جميلة جداً، هل كل هذا لأحمد؟ ... إلخ) من جميع أنواع الأسئلة المحرجة التي أعرف مسبقاً أنها تعرف إجابتها تمنيت ألا تواجهني بها، أما أنا فكنت أتحدث مع جي-سان عن اخر مشروع دون أن أرد على إيليشيا، التي تعرف بأنني لا احب أن أضع سوى حمرة الخدود عندما أشعر أنني شاحبة بعض الشيء! .. 

عندما دخلنا المسرح، كان قلبي ينبض بشدة كنت أرى وجه أحمد في كل شخص يمر أمامي، أبحث عنه بين الناس بعينين فضوليتين ولم يقطع عملية البحث إلا استئذان جي-سان للذهاب للقسم الياباني التي وعدناها أن نلقي إليه نظرة لاحقاً، أما أنا فذهبت مع إيليشيا إلي الكشك رقم (٢٥)! حسناً!! إنه قريب من القسم الإماراتي لذلك أفزعتني إيليشيا البارحة! ... 

البارحة! .. كانت هذه الأكشاك عارية من الزينة! أما اليوم فأنا أشعر كأنني في مكان آخر، كأنني في (القرية العالمية) في دبي ولكن بشكل مصغر، من المذهل كيف استطاع الطلاب أن ينجزوا هذا الكم الهائل من التجهيزات خلال هذه الفترة القصيرة جدا.

- ستتفاجئين بي غداً يا ليلى ... 
- حقا إيليشيا؟ لماذا؟ 
- لن أخبرك، ولكن سترينني بشكل مختلف تماماً، مؤكد أن الكشك رقم ٢٥ هو الذي سيفوز .. 
- ربما يفوز الكشك رقم ٣٢ (وانا ابتسم) 
- أي دولة؟
- الامارات
- يستحيل أن يفوز كشك دولتكم على دولتنا، نحن فوزنا محقق سترين ..

ابتسمت لإيليشيا ابتسامة شقية جداً فما كان منها إلا الضحك وهي تضربني على كتفي قائلة (أنتي تقصدين أحمد وليس الكشك! بهووووت مشكلهي ليلى!)

حين وصلنا إلى القسم الهندي كان زملاء إيليشيا يرقصون على أنغام أغنية هندية وقد تجمهر حولهم عدد من الطلبة، وهنا زاد الادرينالين في دم صديقتي الصغيرة فعلقت حقيبتها على رقبتي وذهبت لترقص بين زملائلها بشعرها الأسود الطويل وبتلك الطاقة المرحة جذبت عدد أكثر من الجماهير حولهم وكنت استطيع أن أستمع لتعليقات الطلبة من حولنا حول صديقتي وجمالها ورقصها.هنا أخذت أصور إيليشيا (فيديو) وأنا أضحك وأصور الطلبة من حولها، أما إيليشيا فكانت مندمجة بالرقص هي وبقية أصدقائها والتحق بهم بعض الطلبة الأجانب في جو مرح جداً.

(أوووه! والله مافيها حيلة الهندية) ... أعرف هذا الصوت جيداً، أستطيع أن أميزه بين جميع الأصوات ..  فكان صوته كصعقة كهربائية سرت في كل خلايا جسدي، ومع هذه المفاجأة سقط الهاتف من يدي، التقطه ورفعت رأسي ... يقف أحمد إلى جانبي .. يشجع إيليشيا ويصفق بحماس وهو يرتدي كنزة زرقاء وتحتها قميص أبيض يطويه حتى نصف ساعده ..

وبلغة إنجليزية هادئة تبادلت معه أطراف الحديث ..

- قلت لك أن لا تتحدث معي هكذا ... 
- أنا أعتذر ولكن لا يوجد هنا الكثير من العرب! ...
- أنت ستفضحني (بنظرة بائسة) ... 
- وهل تخجلين من كونك عربية؟ إماراتية؟ .. 
- يا إلهي كلا!! .. ولكن لديّ أسبابي الخاصة! ... 

تقترب صديقتي الصغيرة بابتسامة واسعة وتخذ حقيبتها وهي تلتقط أنفاسها: 

إليشيا: أحمد! مرحبا! (تنظر إلي ايليشا انها لن تمد يدها) .. 
أحمد: رقصك رائع يا إيليشيا! ... 

عضضت على شفتي السفلى لأمنع نفسي من الحديث أو التعبير بملامح وجهي عن استيائي، شعرت بنوع من الغيرة عندما اثنى على رقص إيليشيا! ،،، 

إيليشيا: أحب الرقص جداً ... 
أحمد: هذا جيد، أبهرتي الجميع ... 
إيليشيا: لذلك سوف نفوز عليكم غداً ...
أحمد: لكم رقصاتكم ولنا أجواءنا الخاصة، نحن من سيفوز 
إيليشيا: سأذهب لأساعد زملائي، فهناك الكثير لننجزه، هل انتهيتم؟
أحمد: سننتهي قبل حلول المساء، سنكون جاهزين غداً ... 

كنت أشعر أنني وحيدة هنا دون إنتماء لشيء! ... فالكل مشغول بالترتيب والتزيين والتجهيز، وأنا أتجول هنا بين عدم المشاركة في القسم الإماراتي وعدم تقديم المساعدة لإيليشيا وجي-سان! وبينما أحمد وإيليشيا يتبادلان أطراف الحديث شعرت بأحد يلمس كتفي، ورغم انشغال أحمد بالحديث مع إيليشيا إلا أنه التفت معي في ذات الوقت ليرى من لمس كتفي ... 

- أوه أنتي هنا يا ليلى!!!! 

شعرت هنا بدقات قلبي تنبض بتوتر، تبادلت النظرات بينه وبين أحمد الذي كان ينظر إليّ كأنه يستفسر عن هذا الشخص ... أخذت نفساً عميقاً ... 

- أهلا ... تيد! ... 

Wednesday, February 13, 2013

مقهى السعادة ،،، (٩) ،،،


خرجت من المسرح ولا زلت أشعر بالغضب، أمشي بخطى ثابتة وعسكرية، أقطب حاجبيّ، وتنفسي متسارع من الغضب، لا أحب أن أرى أحمد "أو غيره" يعيشون حياتهم هكذا! لا يفكرون بالحرام والحلال ولا يفكرون أن هناك عادات وتقاليد، توجهت إلى أحد المباني، حتى وصلت إلى المكتب المنشود، وقفت قليلاً، أخذت نفس (بسم الله الرحمن الرحيم) همست لنفسي هكذا وطرقت الباب، رد علي البروفيسور جون بالدخول، وهنا تصنعت ابتسامة وأنا أحيي البروفيسور، وأخبرته أنني أود تسليم البحث، أخبرني أن لدي متسع من الوقت لأسلمه بعد عدة أيام، وأجبته أنني انتهيت منه وأحتاج لوقت أطول للدراسة. استلم بحثي بذلك البرود والحزم الشديد الذي اشتهر به، في الحقيقة كنت خائفة من أن يوبخني لأي سبب آخر، ولكنه تصفح بحثي بصورة سريعة ثم أشاد به.

خرجت من مكتب البروفيسور جون وأنا أبتسم، أن يشيد بمجهودي بروفيسور مثل هذا أعتبره إنجاز استحق أن أكافئ نفسي عليه، أخذت كوباً من ماكينة القهوة وأنا في الطريق إلى الخارج، سأعود مبكراً إلى البيت هذا اليوم، أود أن أنجز بقية المشاريع لأتفرغ للدراسة والتسوق! .. 

هذه المرة لم أستقل الحافلة من أمام الجامعة، كنت أشعر برغبة عارمة بالمشي في شوارع مدينة نيويورك، في هذا الوقت من السنة تتغير الشوارع والمحلات وكل شيء في نيويوك يستعد "للكريسماس" .. شوارع نيويوك جميلة جدا، تتزين أغصان الأشجار بالزينة الملونة، كما تزهى واجهات المحلات بأشجار الصنوبر المزينة بطريقة مميزة، فبعض محلات الحلوى تزين أشجارها بالبسكويت والحلويات، والمحلات الفارهة لا تزين أشجارها إلا بزينة أنيقة تقليدية، ويختلف كل مقهى بتزيينه لأشجار الصنوبر عن الآخر. أنا أحب نيويورك في هذا الوقت من السنة، ليس لأنني سأحتفل معهم في الكريسماس، ولكن لأن المدينة تنضح بالطاقة الإيجابية والفرح.

وبينما كنت أتمشى ببطئ شديد وأنا أشرد بعينيّ بين كل هذه الزينة المبكرة للاحتفال، لفتت ناظري مكتبة صغيرة، استطعت من خلال الزجاج أن أرى إحدى الفتيات ترتدي طوقاً على رأسها على شكل قرون الأيل، والأخرى تلبس قبعة "بابا نويل"، كانتا في قمة النشاط، يتبادلن الحديث وهن يضحكن بشدة، فتحت باب المكتبة ليعلن جرس صغير معلق على الباب دخولي. كانت هذه المكتبة مميزة نوعاً ما، رائحة الكتب، والخشب، وعطور تجعلني أشعر وكأنني في كوخ في ريف سويسري وليس في نيويورك (تفضلي، نحن لم نعلق اللافتة بعد، ولكن لدينا تخفيضات) هكذا قالت صاحبة القبعة الحمراء.

اشتريت رزنامة لوالدتي، وسكين لفتح المظاريف لوالدي، وأخذت شريطاً تستطيع جي-سان أن تلبسه حول عنقها وتعلق هاتفها به، وملصق عليه فتاة غجرية جميلة لجهاز اللابتوب الخاص بإيليشيا، أما أنا فاشتريت بعض الأقلام الخشبية ودفتر صغير،،،،،،،وفاصل كتب خشبي ..... لأحمد ... طلبت من صاحبة القبعة الحمراء أن تلف كل هدية بورق هدايا على حدى، سوى أقلامي ودفتري، خرجت من المحل على صوت الفتيات (شكراً جزيلاً، زورينا مرة أخرى)، خرجت مبتسمة، ووضعت سماعات "الايبود".. وعلى غير العادة لم أكن أشعر بتجمد أنفي من برودة الجو، بل كنت أشعر بالحرارة تتصاعد في وجنتيّ كلما رأيت الحقيبة الورقية الصغيرة التي بين يديّ.

وهكذا نسيت زينة مدينة نيويورك الملونة والتي كنت أشرد معها بعيداً، ولم أنتبه لزحمة شوارعها، كنت أمشي فقط وكأن عقلي الباطن يرشد قدماي إلى طريق مقهى السعادة، وكنت أفكر بالكثير من الأشياء، فكرت إذا كانت مساعدتي لأحمد قرار خاطئ أم لا، وإن كنت فعلا كما تقول إيليشيا أحكم عليه بنفس النظرة التي يحكم فيها بعض أفراد مجتمعي عليّ، فكرت لوهلة إذا كان يمشي هنا معي في شوارع نيويورك! .. هل سيحب أن يقطع المسافة مشياً على الأقدام أم أنه سيحب أن نستقل سيارة؟ تخيلت لوهلة أنه يمسك بيدي بإحكام بينما نحن نقطع الطريق، ربما صوت الموسيقى في أذني، وجو الشتاء البارد، كان يساعد على هذه الأفكار.

وعندما وصلت إلى مفترق الطرق بالقرب من مقهى السعادة، وقفت على قارعة الطريق أنتظر أن يحين الوقت لعبور الشارع، وقف بجانبي شاب أمريكي يقارب طوله طول أحمد! ،، وعندما حان الوقت للعبور فمشيت خلفه وأنا أبتسم ... حسناً، قررت أن أسامح أحمد على ما حدث اليوم، وأن أشكره "متأخراً" على مساعدته لي ذلك اليوم بهدية رمزية، أعتقد أنه لا بأس إن أهديته فاصل كتب ...

دخلت إلى المقهى، ووجدت جدتي تجلس مع صديقها العجوز، احتضنت جدتي بقوة من خلف ظهرها، وطبعت قبلة سعيدة على خدها وجلست بجانبهم (كيف حالك يا سيدي؟) ... (أنا بخير، كيف حالكِ أنتِ؟) .... (بخير، شكراً لك) .... هنا نظرت إلىّ جدتي وهي تبتسم (يبدوا لي أنك سعيدة اليوم يا ليلى؟) ... (نعم فقد سلمت بحثي للسيد جون وأشاد به) ... (ألم تقولي أنك ستعودين مبكراً اليوم؟) .... (اااه! هذا صحيح!!! .. فقد عدت مشياً واشتريت بعض الأغراض في طريق العودة!) ... (تذكرين تلك الفتاة الصغيرة التي اتصلنا بوالدتها؟) ... (نعم إنها آني) ... وهنا أشارت لي جدتي باصبعها باتجاه آني التي لم ترني حتى الان ... (إنها تنتظرك منذ أكثر من نصف ساعة) ... (من الذي معها؟) ... (أخوها، شاب لطيف) ...

استأذنت من جدتي وصديقها العجوز، وتوجهت ببطئ خلف آني وأغمضت عينيها (من أنا؟) ... أمسكت بيديّ وقفزت مبتسمة، (ليلى! تأخرتي!) ... (لم أكن أعلم أنك هنا) ... (تود والدتي شكركِ وأرسلت لك هذه الهدية) ... كانت الهدية عبارة عن منديل أبيض طرز عليه اسمي، و"سكارف" بألوان خريفية ... (لم يكن عليها فعل ذلك! ... شكراً جزيلاً) ... هنا تحدث أخو آني وهو يبتسم (لا بأس فهذا ليس بالكثير، مرحبا أنا تيد) ... أومأت له مبتسمة (انا ليلى) .... (أعتقد أنني رأيتك في مكانٍ ما؟) ... (في بلادي نضرب مثلاً بأن هناك ٤٠ شخص قد يشبهك!) ... ضحك تيد وبدأ يحك شعره الكستنائي ... (أين تدرسين؟) ... (جامعة نيويورك) ... (إذاً أظنني التقيت بك هناك! إنها أول سنة لي في الجامعة) ... (ممكن) ... (هل لديك صديق؟) ... لم أستطع أن أتمالك نفسي من الضحك، فضحكت بشدة ووضعت يدي على شفتاي أحاول جاهدة أن أهدئ ...

تبادل تيد وأخته النظرات، وضعت يدي على صدري وأنا آخذ نفساً عميقا .. (كلا يا تيد، ليس لدي صديق) ... ابتسم تيد وقال سريعا (حسناً هل تودين الذهاب معي لتناول الغداء؟) ،،، هنا وكزته اخته بكوعها فنظر إليها بغضب (ماذا؟) ... أما أنا فشعرت لوهلة أنني أمام (جوي) من مسلسل (فريندز).... ابتسمت وقلت له (لا أستطيع، أنا اسفة) .... (لا بأس، كانت محاولة وفقط) .. شكرتهم مرة أخرى على الهدية، وخرجنا مع بعضنا البعض، ليذهبوا هم في طريقهم، وأتوجه أنا إلى منزلي ،،،

في الطريق إلى المنزل، فكرت في كيفية اعطاء أحمد فاصل الكتب، وأين؟ ومتى؟ ... تذكرت رائحة عطرة القوية فابتسمت، وتذكرت إيليشيا، وهنا اخرجت هاتفي لأجد مكالمة لم يرد عليها، ورسالتان منها (١- ليلى أين أنتِ؟) ... (٢- لا تظني أنني لن أحقق معكي حول "ليلى-مجنون") ... ابتسمت وأنا أدخل منزلي وأوصد الباب من خلفي، ثم علقت شالي ومعطفي بجانب الباب، وخلعت حذائي، وكتبت لإيليشيا رسالة وأنا أتجه إلى الأعلى (ماذا تريدين) ... استلقيت على كنبتي الناعمة وأنا أشعر بأن التعب قد تمكن مني بعد العودة مشي على الأقدام إلى المنزل، رغم رغبتي الشديدة في النوم، إلا أنني كنت أنتظر رد إيليشيا التي كانت تراسلني بصورة فورية:

- ماذا أريد؟ ماذا كنتي تفعلين معه؟
- لا شيء فقط أساعده ..
- اعترفي ماذا قال لك؟ ..
- يعرف أنني إماراتية ..
- حقااااااااااً؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

كتبت لها باختصار شديد كيف عرف أنني اماراتية، وهنا تخيلت تعابير وجه إيليشيا وعينيها الجميلتين اللتان تتسعان عندما تتفاجىء، ثم اخبرتها انني اشعر بتعب شديد وسأتحدث إليها لاحقاً. اخذت حماماً ساخناً، واستلقيت على فراشي دون القدرة على الحراك، أغمضت عيني وأنا اختفي في فراشي، لم تكن لدي القدرة على الحركة أبداً، ولكن لم ينطبق ذلك على خلايا مخي، فكانت أفكاري تحدث ضجة في جمجمتي، لم تمكنني هذه الأفكار المبعثرة من النوم الا بعد وضع خطة "خيالية" محكمة لما سأفعله غداً.....

Friday, February 8, 2013

مقهى السعادة ،،، (٨) ،،،


رافقتني إيليشيا إلى المنزل، وانضمت لنا جي-سان لاحقاً، كنا نستذكر الدروس ونحاول أن ننتهي من المشاريع التي يجب أن نسلمها هذا الأسبوع، لو لم تكن جي-سان معنا لما انتهينا من شيء، فكلما حاولنا مناقشة نقطة غامضة في المشروع، تقوم إيليشيا بالتعليق بطريقة مضحكة جداً لا يتقنها أحد سواها، فأضحك أنا بشدة مع إيليشيا أما جي-سان فكانت تبتسم بأناقة ثم تسكتنا باسلوب لطيف قائلة (مالذي كنا نقوله؟ نعم ... ) وترجعنا لجو الدراسة مرة أخرى، هكذا حتى أخبرتهم أنني بحاجة لفترة من الراحة وأداء صلاة العصر.

أحب أشعة الشمس التي تدخل من النافذة فترة العصر، ولذلك أضع سجادتي بالقرب من النافذة لأصلي العصر وأقرأ أذكار المساء، في ذات الوقت كانت إيليشيا تحضر لنا شطائر خفيفة، أما جي-سان كعادتها كانت تستغل مثل هذه الأوقات بالدخول إلى صفحة الفيس بوك وفليكر وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.

عندما انتهيت من الصلاة، جاءت إيليشيا ووضعت الشطائر وأكواب الشاي بجانبي على الأرض، ثم ذهبت وأنزلت شاشة جي-سان بتهديد (جي-سان! .. أرجوكِ أن تتركي هذا الجهاز قليلاً، سنتناول الطعام على الأرض)، كانت ردة جي-سان جداً مضحكة عندما أمسكت بيد إيليشيا بفزع (لاااا أنتظري .. أتركي الشاشة ...) .. ابتسمت إيليشيا بِشَر (سأغلق شاشة الجهاز الآن ... واحد ... اثنان ...) عندها فقط تركت جي-سان الجهاز وجلست على الأرض بهدوء بجلسة يابانية أنيقة، هنا عكست أشعة الشمس لون شعر جي-سان الكستنائي الذي كانت ترفع خصل منه بمشبك على شكل وردة، كل شيء في جي-سان أنيق. أما إيليشيا فضربت كفها بكفي كعلامة نصر، وجلست على الأرض"متربعة" مثلي.

بدأت بتناول شطيرتي، حينما قامت إيليشيا بلمس شعر جي-سان (شعرك ناعم جداً يا جي-سان، وهذا اللون يناسبك جداً) .. وأتبعت أنا (فعلا جي-سان، لونه جميل جداً، هل هناك مناسبة لتغيير لون شعرك؟) ، ابتسمت جي-سان ابتسامة واسعة وقالت (صبغته لفعالية "حول العالم في جامعة نيويورك") قطبت حاجبي فأنا لا أعرف عن هذه الفعالية شيء. سألتها إيليشيا عن الفعالية فقالت جي-سان (لقد أخبرني أحد الأصدقاء عن هذه الفعالية، وتم ارسالها لجميع الطلبة على بريد الجامعة الالكتروني، حتماً وصلتكم الرسالة) ..

ضحكنا أنا وإيليشيا وعندما سألت جي-سان عن السبب كان لدينا سبب واحد (نحن لا نقرأ الإعلانات التي ترسل في بريد الجامعة) ... نظرت إلينا جي-سان وقالت: حسناً هذه الفعالية تضم أكشاك صغيرة، بحيث يمثل كل كشك إحدى الدول، وأنا سأشارك في المعرض الياباني. (كيف أشارك؟) هكذا سألت إيليشيا وأخبرتها جي-سان أين ستجد قائمة الطلبة والدول المشاركة، تحمست إيليشيا للفكرة كثيراً. أما أنا فقد كنت استمع لهما بهدوء وأنا أتناول الشاي (ليلى، ألن تشاركي؟) .. أشرت لهما بيدي دون أن أتحدث وكأني أقول لهم (انسوا الموضوع). هنا لم أستوعب ما حدث! حيث شعرت بصفعة على جبهتي بأطراف أصابع إيليشيا الباردة، لم تؤلمني ولكن خفت من صوت الصفعة وردت فعلها الغريبة.

(ليلى؟ .... باقل-هي؟) ... (أنتي الغبية والمجنونة يا إيليشيا) .... (قد يشارك أحمد، هذه فرصة) ... (لنكمل المشروع أرجوكم) قلت هذه الكلمات وأنا أتجهه إلى الطاولة، لحقت بي إيليشيا وجي-سان، عم الهدوء المكان، كل ما نسمعه هو فقط صوت نقرات لوح المفاتيح، حتى انتهينا.

ذهبت في البداية جي-سان حيث أقلها أحد أصدقائها، أما إيليشيا ساعدتني على التنظيف وهي تتحدث عن دون توقف عن ما ستفعله في القسم الهندي (سأحضر تمثال كريشنا ... سأحضر حلوى اللّدو ... يجب أن أختار ملابس جميلة .. أود أن  أكون أنا في الاستقبال....الخ الخ الخ) لم أصغِ لها كثيراً، فكنت أفكر إذا كان هناك قسم اماراتي .. هل سيشارك أحمد؟ ابتسمت عندما تذكرت شكله وهو يرتشف القهوة صباحاً، ثم عقدت حاجبي عندما تذكرت أنه صافح إيليشيا، ومع تغير تعابيير وجهي صفعتني إيليشيا على جبهتي مرة أخرى وهي تقول (أحمد؟) .. فابتسمت.

مر يومان وأنا أذهب إلى الجامعة وأعود العصر منهكة، لم يكن الانتهاء من المشاريع ومناقشة الطلبة ومراجعة الأساتذة سهلاً، لم أكن التقي باليشيا وجي-سان الا وقت المحاضرات، وننهي واجباتنا ومشاريعنا معاً كل مساء "أونلاين". في اليوم الذي يليه أديت صلاة الظهر في زاويتي السرية في المسرح، ثم سمعت أصواتاً كثيرة عند انتهائي من الصلاة، وعندما خرجت وجدت الطلبة والطالبات يجهزون الأكشاك، كانت أشكالهم ممتعة جداً، حيث كانت الأكشاك جاهزة ولكنها عارية من أي نوع من من أنواع الزينة. كنت أمشي بين الطلبة والقي التحية على كل من أعرفهم واتمنى لهم التوفيق، الا الطلبة العرب فقد كنت ابتعد عنهم وكأني لم أدرس معهم مسبقاً.

التقطت بعض الصور بواسطة هاتفي، وقررت رفع بعض هذه الصور في حسابي الفيس بوك، حسابي في الفيسبوك فيه الكثير من طلبة الجامعة، وبعض افراد العائلة، لم يكن حسابي ممتعاً ولم أكن أحدثه باستمرار، وبينما كنت منشغلة برفع الصور سمعت صوتاً بجانبي ... (ليلى) ... أغمضت عينيّ بشدة لعدة ثواني، تسارع نبض قلبي مرة أخرى، أنا أعرف صوته جيداً حتى وان لم نتحدث كثيرا .. فتحت عيني وأنا أضغط عشوائيا على (إرسال) لأرفع الصور دون أي وصف يذكر في صفحة الفيس بوك.

كان ينظر إلي بابتسامة لطيفة وعندما نظرت في عينيه التفت لأبحث عن أي شيء آخر سواه .. وبلهجة أمريكية هادئة قال: (مساء الخير يا ليلى، هل تشاركين في المعرض؟ .. في أي قسم انتي؟) .. كان سؤاله واضح جداً (من أي دولة أنتي؟)، ابتسمت وقلت له أنني لا اشارك ولن أشارك ..

كان يحمل صندوقاً كبيراً وفوقه صناديق صغيرة، تساقطت هذه الصناديق عندما اصطدم أحد الطلبة بكتف أحمد، فحملت أنا هذه الصناديق الصغيرة (سأساعدك، أين نضع هذه الصناديق؟) .. (لا داعي يا ليلى، شكرا جزيلا) .. (لا بأس، انها ليست ثقيلة) .. حسناً لا أعرف لماذا فعلت ذلك ولكن ربما هي ردة فعل سريعة من قبل عقلي الباطن ..  (الكشك رقم ٣٢) .. 

يتوجه أحمد إلى الكشك وأنا خلفه بخطوتين، رائحة عطره قوية ولكنها جميله، كنت أنظر إليه من الخلف .. ملابسه نظيفة ومتناسقة ، شعره بطول مناسب ..يدرس في جامعتي ..  يكمل دراسات عليا .. يكبرني سناً .... لم أنتبه مسبقاً لفرق الطول بيني وبينه، فهو طويل جدا ..... يا الهي مالذي افكر فيه الان؟ .. لو يعرف فقط ما يدور في رأسي!! ...

(ل ي ل ى ى ى  ى ى ى) سمعت هذه الصرخه مع كف يضرب كتفي، فشهقت بصوت عالٍ .. (تبا لك يا إيليشيا .. لقد أخفتني!) .. بصراحة لم يخفني صوت إيليشيا بقدر ما أفزعتني أفكاري التي ظننت أنها تناثرت هنا وهناك خارج جمجمتي! .. ضحك أحمد وابتسمت أنا لفكرة تتربع عرش خلايا مخي "يحمل أحمد صندوقاً، إذاً لن يصافح إيليشيا".

غمزت لي إيليشيا بشقاوة وسألتني مالذي افعله هنا، أخبرتها أنني كنت اصلي ووجدت أحمد في الطريق، واخبرتنا ايليشيا انها مشغولة جداً فقد استطاعت ان تشترك مع مجموعة من الزملاء لتجهيز الجناح الهندي، وعندما ذهبت ايليشيا نظر الي احمد وقال : (تصلين ... مممم...هذا جيد) .. كان هذا التعليق كافياً لأكون حانقة مرة أخرى وقلت بلهجة مستفزة تجمع موضوع الصلاة والمصافحة (نعم .. أن تكون في أمريكا لا يعني أن تنسى تعاليم "دينك" الاسلامي")، ابتسم لغضبي واكمل طريقه وانا امشي خلفه حانقة (كلهم يفكرون بذات التفكير، أن أكون طالبة في دولة أجنبية يعني أن أكون سيئة) هذا ما كان يدور في بالي حتى وصلنا للكشك رقم ٣٢ .. 

وضعت الصناديق الصغيرة في الداخل، واستأذنته بالرحيل، فقال: (شكرا جزيلا، ... أنا لم أقصد شيئاً منذ قليل، فقط أظنه من الرائع أن تستمع لشخص يقول انه يصلي) ... لم أرد عليه ... (لا تكوني هكذا، لا تكوني جادة إلى هذه الدرجة!) ... أيضاً لم أرد عليه ... (أخبرتني اليشيا انك غضبتي لمصافحتي لها، لا أعرف لماذا ولكن لا يعني هذا أنني انسان سيء) ... نظرت إلى عينيه وهو يتحدث فهدأت قليلاً وقلت (أتمنى لك التوفيق) ... (ولكن لم تخبريني يا ليلى، هل ستشاركين معنا؟) ... (قلت لك لا) ... (ولكن عدد الطلبة الاماراتيين هنا قليل مقارنة ببقية الجاليات) ... كانت هذه الكلمات كافية ليسقط قلبي على الأرض بقوة، توترت ولم تكن تعابير وجهي مفهومة، هل يقصد مساعدتهم بشكل عام ام انه يقصد ان اساعدهم كفتاة إماراتية،،،، 

(تراني سمعتج من يومين ترمسين فالتيلفون عند باب الكوفي، بصراحة أنا كنت حاس انج عربية لكن ما كنت اعرف انج اماراتية)... تجمعت الدموع في عينيّ دون أن تسقط، شعرت بأنه كشف سر كنت احاول المحافظة عليه. (انا ما قصدت والله لكن انتي ما شفتيني؟ انا كنت واقف عند الباب اتريا سياره ربيعي) ... هززت رأسي بالنفي .. وتحدثت معه بلغه انجليزية (أنا ذاهبة) ... (لا لا اصبري، انزين ليش ما ترمسين عادي؟ محد هنيه من ربيعاتج يعني مب لازم انجليزي) ... أطرقت رأسي وقلت (ماحب، بعدين ليش تسالني بشارك باي قسم بشارك يوم انك تعرف انا من وين؟.........) ... ابتسم هو عندما تحدثت معه بلهجتنا الاماراتيه، وبعد قليل كان صديقه الذي رأيته معه سابقاً يمشي باتجاهنا وهو يحمل أكياس كثيرة ... (دخيلك يا أحمد، أنا مافيني على مشاكل العرب ولا الخليجيين، لو سمحت لا تخبر حد) ... (ليش انزين؟؟؟؟) .... (هذا شي راجع لي .. رجاءً) ....

(خالد، هذه ليلى .... ليلى هذا خالد من السعودية) .. تحدث أحمد بلغة انجليزية مما جعلني اشعر بنوع من الراحة (تشرفت بمعرفتك يا خالد) ... (الشرف لي يا انسه ليلى، ألم أركِ في مقهى السعادة منذ يومين؟) .. (أظن ذلك) ... هنا جاءت فتاة شقراء وطويلة تلبس كنزة صوفية، تنورة قصيرة و"بوت" ... ضربت كتف أحمد بخفة وتحدثت بلكنة بريطانية (أحمد إذا هنا الكشك الخاص بدولتكم؟، أتشوق لمعرفة تراثكم وعاداتكم، مرحبا خالد، انت هنا ايضا..) نظرت اليّ وهي مبتسمة وقالت (مرحبا) ... (اهلا ...) كان ردي مقتضب وأنا انظر إلى أحمد الذي رفع حواجبه عندما شاهد نظرتي الحانقة ... (سعدت بلقائكم جميعاً .. أتمنى لكم التوفيق ... إلى اللقاء) ... وهكذا تركتهم ... وتركت هذا الأحمد ... الذي جعلني أسمع صوت أنفاسي الغاضبة وأنا متجهة إلى الخارج، يصافح ايليشيا يوماً، وتربِت على كتفه شقراء جميلة في يوم آخر، ثم ماذا؟


Tuesday, February 5, 2013

مقهى السعادة ،،، (٧) ،،،


رغم أنني طلبت من إيليشيا عدم القدوم، إلا أن إصرارها بالتواجد معي كان ما أريده حقاً، في داخلي أشعر بنوع من الحماس لوجود أحمد هنا، ربما لم أتحدث إليه كثيرا، وربما لم ألتق به كثيراً، والأهم أنني لاأبادر بشيء وأخفي عنه هويتي، قد يكون ذلك لقناعتي التامة أن الكثير من الناس في مجتمعنا الإماراتي يرفض فكرة دراسة الفتاة في الخارج، ومنهم عائلتي! .. لا أحب أن أتذكر ردة فعل إخوتي من أبي عندما علموا أنني سأكمل دراستي في الخارج، ولا أحب أن أتذكر ذلك الألم الذي سببته لوالدي، ولكن لم تمانع والدتي ولا والدي أيضاً من دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية، فهم يثقون بقدرتي وتميزي الدائم في المدرسة كما أن تحصيلي الدراسي هنا لا يقل عن الممتاز، قد يعتبرني الكثير "متحررة" لتواجدي هنا لوحدي، وقد يظنون بي السوء ولكن أنا أعرف ما الذي أفعله، وسأثبت لهم أن أفكارهم هذه غير صحيحة! ... 

قطع تفكيري صوت إيليشيا المميز والمرتفع عندما دخلت وهي تقول (صباح الخير)، ثم توجهت إلى جدتي وحنت جسمها بطريقة الأفلام الهندية لتلمس طرف قدمها، دهشت جدتي لوهله ثم ما لبثت أن ضحكت بعد أن أكملت إيليشيا ذلك الفصل التمثيلي وهي تمازح جدتي بلغة هندية (كي سا هي نانا-جي؟) وتعني (كيف حالك يا جدتي)،  لم يكن رد جدتي سوى الضحك وأخبرتها أنها لا تفهم لغتها، ثم أخبرتها أنني موجودة هنا (صديقتك تجلس في مكانها المعتاد).

هنا رمقتني إيلشيا بنظرة خاطفة فقط لا غير بتلك الابتسامة التي تحتوي على خمسين كيلو جراماً من الحماس الذي كنت أنتظر أن يشاركني به أحد، نظرت إليها بابتسامة مفعمة "بالحماس" وبعد تلك النظرة الخاطفة كانت هناك النظرة (التفقدية) حيث كانت تحرك عينيها بحثاً عن أحمد، فلم تجده.

التفتت إليّ مرة أخرى بنظرة تساؤلية وكأنها تقول (أين هو؟)، رغم أن أحمد كان يجلس أمام إيليشيا ولكنها لم تره لأنها كانت تقف خلفه، فلم يكن مني إلاً أن زممت شفتاي وأشرت لها بعينيّ تجاهه وأنا أرفع حاجبيّ (أحاول أن أخبرها بمكانه دون لفت الأنظار)، فما كان منها إلا أن أشارت على أحمد بإصبعها وهي تنظر إلي.

التفت صديق أحمد إليّ فجأة. يا الهي! لقد انتبه صديقه أن إيليشيا الغبية تؤشر على أحمد وهي تنظر إليّ في ذات الوقت، فما كان من أحمد إلا أن نظر باتجاهي ثم التفت وراءه ليجد إيليشيا تقف خلفه. أما أنا فتظاهرت بطريقة فاشلة جداً أنني لم أكن أنظر تجاههم.

عدت بنظري إليهم سريعا، فلا فائدة الآن من الاختباء، أو بالأحرى أنا أنتظر صديقتي وأنظر إليها هي "فقط" أو هكذا أقنعت نفسي. وقف أحمد احتراماً لإيليشيا، والتي مدت يدها لتصافحه، هنا شعرت أن الساعة توقفت، عقدت حواجبي باستنكار، وكنت احرك ناظري بين كف أحمد وكف إيليشيا وأنا أحدث نفسي (لا يا أحمد! .. لا تفعل أرجوك! .. لا .. تفع...ل!) ..........

هنا وعندما التقت يد أحمد بيد إيليشيا لم أكن أسمع حديثهم رغم صوت إيليشيا المرتفع، وجدتني أضع يدي اليسرى على صدري، ويدي اليمنى توقفت عن التحرك فوق "الكيبورد"..  تسارع تنفسي حتى أنني كنت استمع لصوت استنشاقي الهواء بغضب، عشرون فكره في الثانية! هذا كان معدل التفكير الذي يولّده عقلي الآن. ثم جاءت ايلشيا ورددت سلامها المفعم بحماس ببرود شديد، 

إيليشيا: ههههه يا إلهي أحمد هنا ... 
أجبتها كمكعب ثلج: أجل ...
إيليشيا (وهي تلتفت وتؤشر لإيمي بأن تحضر): يعجبني هذا الرجل، يجب أن نعرف معلومات أكثر عنه لنطمئن على مستقبلكِ معه.

رغم محاولتها المزح معي، إلا أنني عقدت حاجبيّ أكثر، فأنا لست في حالة الحماس الآن .. ولكن لم تعر إيليشيا اهتماماً كثيراً "لحالتي النفسية"، فتحدثت مع إيمي بعد إنهاء جملتها، أما أنا فكنت أنظر إلى أحمد بنظرة حامقة، وربما هذه الطاقة السلبية كانت هي السبب التي جعلت أحمد يلتفت إلىّ.

وعندما التقت عيني بعينه، نظر إليَ نظرة وكأنه يسألني (هل هناك شيء؟) ... فلم يكن مني إلاً أن أغلقت شاشة "الابتوب" بقوة ثم نظرت إلى الناس في الخارج. وهنا سألتني إليشيا (ما بكِ؟) ... (لا شيء) .. (أخبريني ما بكِ؟ لماذا هذا المزاج السيء فجأة؟) .. (قلت لكِ لا شيء) .. (هل أخبرك ما قاله لي أحمد؟) ... عندما سمعت اسمه عقدت حاجبي أكثر وقلت بشدة (لا) .. (هيا يا ليلى! ... أخبريني) .. التفت نحوها وقلت: (إيليشيا، هل رأيتني أسلم على أحد الرجال مسبقاً؟) .. هزت صديقتي رأسها بالنفي وهي تقول (أنا أعرف أن هذا لا يجوز في تعاليم دينكم الإسلامي، هكذا بعض العائلات الهندية الملتزمة في الهند أيضاً .. ولكن هناك الكثير من المسلمين  ممن لا يلتزمون بذلك)

تبادلنا النظرات بصمت لعدة ثواني .. حتى بدأت إليشيا الحديث: (أنتي غاضبة لأنني صافحت أحمد؟) .. لم أرد عليها وكان هذا كافياً لتعرف إيليشيا أنني فعلاً غاضبة بسبب مصافحته لها! .. لماذا يصافح إيليشيا؟ .. هل هو شاب يصادق الفتيات؟ هل هو من النوع "المتحرر"؟ أنا لا أحب أن ألتقي بشخص مثل أحمد، لا يمانع أن يصافح الفتيات! .. ويعلم الله وحده ما الذي لا يمانعه أيضاً؟ .. استغفر الله .. إن بعض الظن إثم، ولكن مهما كان، لم يكن عليه أن يصافحها .. هنا ضربتني إيليشيا على رأسي وهي تقول "استيقظي" ..

نظرت إليها كالقطة الحانقة، واكملت (لا طالما تحدثتي عن مجتمعكم وكيف أنهم يسيؤون الظن، وأنك عانيتي جداً من أحكامهم عليكِ، والآن أنتي غاضبة لأنه صافحني؟) ... فأجبت بثقة: (أنا لست غاضبة عليك ولكن لم يكن عليه هن أن يصافحكِ!) .. ابتسمت صديقتي الصغيرة وقالت: (إنك تغارين!) .. زاد غضبي وقلت: (ليست غيرة، وإنما ما فعله غير صحيح!) .. رفعت إيليشيا كتفيها بلا مبالاة وأخذت تشرب الشاي الذي كانت رائحة النعناع تفوح منه وهي تقول: (أنتي دائماً تبالغين فربما خجل عندما فاجأته بمد يدي إليه) ... قبل أن أرد عليها .. رن هاتفي ... إنها والدتي! .. وعادةً هي لا تتحدث معي في هذا الوقت المتأخر في الإمارات...


ولأن إيليشيا هنا تحدثت إلى والدتي بلغة إنجليزية احتراماً لها (أهلا أمي! .. كم أنا سعيدة باتصالك ... أنا بخير الحمدلله، أتناول فطوري عند جدتي، نعم نعم في مقهى السعادة، ماذا ؟؟ ممم ... لحظة) .. أشرت لإيليشيا أنني سأعود وخرجت لأتحدث بجانب المقهى.

كنت أتبادل الحديث مع أمي وأنا أمشي ذهاباً وإياباً دون أن أركز في ما أشاهده، فلم أكن أركز في الكتب التي توجد على واجهة المكتبة المجاورة، ولم أكن أركز في وجوه الناس، كنت أتحدث وكل ما أفكر فيه هو ما تقوله لي والدتي، ولم أكن أتحدث هنا سوى بلهجة إماراتية أشتاق لها جداً ،،،

(أمايه! .. مابا أرد لبلاد .. أنزين هم مالهم خص فيني! .. انتي أمي وهو أبوي! هم أخواني من أبوي مالهم خص فيني .. مابا أرررررد ... دخيلج أمايه أقنعي أبويه مره ثانيه! ... أبا أتم في أمريكا، والله ما بطلع فراس السنة من الشقة ولا فالكرسمس لكن بليييييز خلوني هنيه! ...... لا تسأليني ليش، مافيني عليهم نسيتي آخر مرة؟ كلوا قلبي! .... أماااااية دخيلج! ليش إنزين؟ .. مابا أحضر عرس فطامي ...... حتى أنا اشتقت لكم تعالوا انتو عندي بتستانسون! .... يعني مافي أمل؟ .... أنا مابا أسوي لابويه مشاكل مع "عياله" ... بس تراني يوم أرد البلاد ما يخصهم فيني! ... أنا قلت لج! .... ان شاء الله ... ان شاء الله ... حاضر ... هذا الاسبوع مشاريع واللي بعده امتحانات وبرد ان شاء الله جيه زين؟ ... وإنتي بحفظه) .... 

هنا أنهيت مكالمتي مع والدتي وقد نطقت آخر الجمل معها بصعوبة، وذلك لاختناقي بين دموع محبوسة وغصة في حلقي، ابتلعت هذه الغصة بمرارة، ولم أستطع أن أمنع دموعي من السقوط، استندت إلى عمود الإنارة لوهلة استغفرت ربي كثيراً، ثم مسحت دموعي واجبرت عضلات وجهي لأن تتقوس وتبتسم، أخذت نفساً عميقاً محاولة مني أن أهدئ من ضربات قلبي حتى استقرت على ايقاع متناسق من الهدوء الكاذب ...

دخلت إلى المقهى وجلست أمام إيليشيا وأنا أبتسم .. فسألتني (هل أنتي غاضبة لأنني صافحت أحمد؟) .. فأجبت (كلا) .. فسألت (كيف حال والدتك؟) ... (إنها بخير، رفض والدي أن يسمح لي بقضاء العطلة هنا .... أين أحمد؟) ... (لقد رحل منذ قليل، ولكنه سأل عنكِ) أجابتني بابتسامة شقية جداً ...

حاولت تمثيل الدور  "الحزين" بعد مكالمة والدتي وهو فعلا ما كنت أشعر به، ولكن كنت أود إخفاء حماسي بما سمعته الآن ولم أنجح، فابتسمت ببلاهه (حقاً؟ ... ماذا قال؟) .... فأجابت: (سألني لماذا أنتي غاضبة وأخبرته أنك غاضبة لأنه صافحني، فضحك وطلب مني أن ألقي إليك التحية) .... تباً لكِ يا إيليشياً وهل تأتي المشاكل تباعاً إلا بوجودك؟ (لماذا أخبرته!! لم يكن ينقصني إلا أنتي يا إيليشيا!!!!) .....