Sunday, December 23, 2012

مقهى السعادة ،،،، (٤)



أستيقظت الساعة الثامنة والنصف بكسل شديد، بدأت أحرك عيناي دون رغبة بأن ألتقي بأي بصيص ضوء يفسد عليّ كسل هذا الصباح، هذه عادتي في نهاية الأسبوع، أستيقظ متأخرة وكأنني أعوض ساعات النوم التي لم أحظى بها طوال الأسبوع. أعرف أن الجو بارد جداً في الخارج، أنا هنا لازلت ألتف على نفسي بهذا الفراش الوثير، تسللت يدي من تحت الفراش لتلتقط الهاتف. 

لم يكن منبهي يعمل في أيام العطل، فكل ما وجدته هو رسالة جديدة من صديقتي أليشا (ليلى، لا تنسي موعدنا في مقهى الجدة الساعة الحادية عشر)، ورسالة أخرى من صديقتي جي-هارو، فهي ترسل للجميع يومياً رسالة صباحية بصورة من تصويرها وتحية رقيقة (صباح الخير) وفقط.

أرسلت رسالة إلى جي-هارو وإليشيا (صباح الخير صديقاتي، سأكون في مقهى السعادة الساعة ١١ ص، أشعر بكسل شديد، ولكني متحمسة لهذه الرحلة). ثم ضبطت المنبه على الساعة التاسعة صباحاً حتى لا ينسيني دفئ الفراش أن أستيقظ، حيث أنني التففت مرة أخرى بفراشي كشرنقة كسولة، مستمتعة بهذه الدقائق الصباحية.

عند الساعة العاشرة والنصف، كنت أمشي ببطئ شديد متجهة إلى مقهى جدتي، تارة أنظر إلى هاتفي وتارة أخرى احتضن نفسي من شدة البرد، رغم ارتدائي معطفاً ظننت أنه سيقتلني حراً إلا أنني لازلت أشعر بالبرد، وكعادتي كنت أغطي شفتاي وأنفي بوشاحي حتى أصل إلى مقهى جدتي، يبدوا لي أن الثلوج ستتساقط قريباً، الشتاء هنا شديد البرودة! .. 

عندما وصلت وجدت جدتي تقف على الباب وهي تستقبل شحنات المزودين الذين تتعامل معهم، الدقيق والماء والقهوة وغير ذلك وهي تشرف بنفسها على نقل هذه المؤن إلى الداخل، ما إن رأتني حتى ضمتني إليها كطفلة صغيرة، واحتضنتها بشدة كما أفعل دوما (جدتي أعطني بعض الحنان، أشعر ببرد شديد)، ضحكت جدتي وشدت ذراعيها عليّ قليلاً (صباح الخير يابنتي، إليشيا هنا منذ نصف ساعة وهي كشعلة نشاط، أنظري إليك! كسولة أنتي!) ... (أخبرتهم مراراً وتكرارا يا جدتي أنني أحب أن أقضي العطلة في فراشي، ولكن إليشا أصرت على مرافقة جي-سان وبالتالي أصبح فرضاً عليّ أن أذهب معهن) .. نظرت إليّ جدي وكأنني لم أكن أشتكي لها، وقالت (إذهبي وأعدي القهوة لنفسك، وتناولي الفطور مع إليشيا، إنك فتاة كسولة).

جي-سان وإليشيا! .. لم تقل لي جدتي أن جي-سان هنا أيضاً، ألقيت التحية عليهم وجلست بجانب جي-سان التي كعادتها لا ترفع يديها عن "اللابتوب"، وطلبت من الشقراء "إيمي" أن تحضر لي فنجاناً من القهوة وشريحة من التوست الفرنسي. ودار بيننا هذا الحوار.

جي-سان: شكراً لذهابكم معي اليوم، فلا أحب أن ألتقط صوراً لوحدي.
إليشيا: يجب أن تختاري مكاناً ممتعاً، فأنا لا أحب الملل.
ليلى: جي-سان، لم تودين التقاط صور لمدينة نيويورك فجأة؟
جي-سان: كما تعلمون فإنني أصور المدينة في شهور السنة المختلفة، وأود التقاط الصور قبل تساقط الثلج.
ليلى: فعلا الجو بارد جداً وقد تتساقط الثلوج قريباً.
إليشيا: أحضرت آلة التصوير الخاصة بي أيضاً، سيسعد والديّ لمشاهدة صور جديدة.

عندما وضعت إيمي القهوة والخبز أمامي قلت بلغة عربية (شكراً)، فابتسمت إيمي وذهبت، أما إليشيا فلم تستطع أن تجعل أي كلمة أن تمر دون تحقيق!

إليشيا: شكراً؟ (تمتمت قليلاً باللغة الهندية وهي تضحك ثم أكملت) لماذا لا تحبين أن يعرف أحد أنك عربية من دولة خليجية؟... 
ليلى: لا أعرف،  أشعر بالراحة هكذا، يكفي أنهم يعرفون أنني مسلمة.
إليشيا: لا أجد أي تفسير لإخفائك معلومة كهذه.
ليلى: ولا أجد أنا أي تفسير منطقي سوى أنني أشعر ببعض الحرية والراحة عندما أحظى بهذه الخصوصية.
إليشيا: أنتي لا تتحدثين باللغة العربية أبداً ولا تتحدثين عن تراث دولتك، لهذا يتساءل بعض الطلبة عن منشأ رأسك ولا يجدون جواباً سوى "مسلمة"! 
ليلى (ابتسامة رضى): وهذا يشعرني ببعض الغرور اللذيذ! .. إليشيا، لا أحب أن ألتقي بطلبة عرب، ولا طلبة من الخليج، يؤمن البعض بأن سفر الفتاة إلى الخارج للدراسة هو دليل على انحلالها الأخلاقي أو عدم اهتمام أهلها فيها، أنا لا أود أن ألتقي بأشخاص هكذا.
إليشيا: أنتي غريبة! 
ليلى: كلا لست غريبة، فقط أحب أن أعيش بسلام، أنا سعيدة معكن، ولكن ليس الآن وقد بردت قهوتي بسبب أسألتك يا إليشياً، إهدئي قليلاً! .. 

ابتسمت إليشيا بشقاوة تلك الابتسامة التي تشتهر بها عندما تشعر بالنصر أو عندما تكون السبب في مصيبة ما! أما جي-هارو-سان فكانت منشغلة تماماً في تعديل مقطع فيلم كانت قد صورته خلال الاسبوع الماضي. جي-هارو-سان تدرس معنا لتحصل على شهادة في إدارة الأعمال، ولكنها كانت تحب إخراج الأفلام والتصوير بشغف شديد، كانت لها مواقعها الخاصة، وتعمل حالياً للانتهاء من تعديل لقطات فلم تسميه (ألوان الخريف).

مبدعة جي-سان، وهادئة جداً بعكس إليشيا، لا تخوض جي-سان في حوارات ومناقشات شديدة كما نفعل أنا وإليشياَ كانت تكتفي بأن تنظرنا حتى ننتهي ثم تقول رأيها بحيادية وهدوء، تفتخر جي-سان ببلدها، فكانت تحب استخدام المنتجات اليابانية، وتحب أن تحتفل بجميع المناسبات الخاصة بهم، جي-سان تحب زميلاً في الجامعة ولكنها لا تستطيع البوح بما تشعر لاعتقادها أن هذا لا يصح ويخالف مبادئها.

كنت أنا من بدأ الحوار مع جي-سان عندما عرفت أنها من اليابان، أخبرتها أنني أرغب بالحصول على صديقة يابانية! ولم تمانع، وتفاجأت وقتها من تمكنها من التحدث باللغة الإنجليزية رغم أن هذا شيء غير مألوف لدى الشرق آسيوين! 

قطع تفكيري صوت جي-سان وهي تغلق جهازها وهي تقول: سنستقل الحافلة التالية، هيا للنتهي من الافطار سريعاً.

Saturday, December 15, 2012

مقهى السعادة ،،،، (٣)


فتحت باب شقتي الصغيرة، علقت وشاحي، ومعطفي، ووضعت حذائي بجانب المعطف، ثم اتجهت إلى الدرج اصعد بكل كسل وأنا أجر أقدامي جراً على عكس نشاط الصباح الذي كنت أركض فيه، دعوني أصف لكم شقتي الدافئة التي استأجرها لي والدي بعد أن تأكد أن هذا الحي من الأحياء الآمنة، وتأكد من وجود نظام انذار فعال في المبنى ككل (أليس كل والد هكذا؟).

عندما أفتح باب الشقة أجد على اليمين علاقة ملابس وبعض الأدراج المفتوحة، وعلى بعد مترين، أصعد إثني عشر درجة تأخذني إلى صالة صُبَِغت بلون عاجي، وجدار واحد قرميدي قد عَلَقت عليه تلفازي وثَبَتُ عليه عدة رفوف بيضاء للكتب والتحف، تحتوي شقتي على كنبة كبيرة وكرسيين صغيرين، وسجادة فرو كبيرة، في هذه الصالة نافذتين متجاورتين، بستائر قطنية بلون القرميد، وحواشي من الدانتيل العاجي، وأمام احدى النوافذ طاولة صغيرة للدراسة، على اليسار غرفتي وهي بمساحة مناسبة، ثم مطبخ صغير جداً وغرفة أخرى صغيرة أستخدمها للتخزين، أو بالأصح تكديس أغراضي عندما لا أجد وقتاً للتنظيف! .. 

عندما صعدت إلى الأعلى استلقيت بكل كسل على كنبتي ومازالت حقيبتي على كتفي، أشعر دائما أني أكاد أتلاشى في نعومة هذه الكنبة، فغالباً أغط في سبات عميق عندما أشاهد التلفاز، أو آخذ قيلولتي هنا، على هذه الكنبة. أغمضت عَينَيّ قليلاً وأنا أفكر في جدتي، فعندما عدت من الجامعة كان المقهى يضج بالزبائن، وكانت "إيمي" مشغولة جداً بتلقي الطلبات، و"جاك" يعد الأطباق الخفيفة، أما جدتي فكانت تجلس في مكاني المفضل مع أحد أصدقائها تتبادل أطراف الحديث تارة، وتوجه إيمي إلى الزبائن تارة أخرى.

اقتربت منها والقيت التحية عليهم، ثم اقتربت من جدتي لاحتضنها برفق وأنا أجلس بجانبها "جدتي، تأخرت اليوم في الجامعة لتغيير اللوح الخاص بي، ووضعت الكوبونات أيضاً! .."، خاطبني صديق جدتي: "أخبرتني ماري عن الكوبونات، لماذا لا تقدمون كوبونات هدايا للبيع؟" ... "سيدي، انه مقهى السيدة ماري، وأنا أرى أنها فكرة ممتازة، ولكن فالنهاية هو قرارها" ... ثم التفت كلانا إلى جدتي التي ابتسمت كعادتها بهدوء وكأنها تقول: سأفكر، ثم تجاذبنا أطراف الحديث واستأذنتهم بالرحيل،،

ربما كان هذا الحوار بسيط جداً، ولكن لماذا يصعب علينا أن نتخذ مثل هذه القرارات في بلادي؟، لماذا الحوار "هناك" صعب؟ ويظن الناس ببعضهم ظن السوء؟ رغم أن أساس الظن في الإسلام هو الظن الحسن؟ .. هززت رأسي بكسل لأبعد هذه الأفكار وانا أحرر شعري من حجابي ومن ربطة شعري، وتذكرت أن والدتي تنتظرني،،،

"أمي، سأنتظرك على الاسكايب"، ارسلت لها رسالة نصية بعد أن دخلت برنامج الاسكايب وذهبت لتبديل ملابسي وتأدية الصلاة، بعد ذلك حضرت شطيرة من الجبن وكوبا من عصير البرتقال وجلست امام الحاسوب انتظر والدتي حتى تخبرني عن تفاصيل يومها.

انتهيت من وجبتي ولم تدخل والدتي، فأرست لها رسالة نصية أخرى "أمي، أين أنتي؟" ... وقررت أن أنتهي من بعض الواجبات ومشاريع الجامعة التي لا تنتهي، فيجب أن أحضر مقالاً عن ايجابيات وسلبيات الثورة الصناعية وما أضافته للعالم بحيث أختصر هذا كله في ٤ فقرات فقط! .. تباً لهذا البروفيسور، فهو لا يحب أن يناقشه أحد، فعندما يناقشه أحد يتعمد أن يحرجه، ولذلك كلما كان لدي استفسار أسأله بأدب وصوت منخفض خوفاً من أن يحرجني أمام الطلبة كما يفعل بالآخرين.

قطع افكاري صوت مكالمة الفيديو وقد كتب على شاشتي (Salma Hamed)، قبلت محادثة الفيديو وأنا أنظر لوجه والدتي الذي رسمت عليه ابتسامة عندما ظهرت صورتي على شاشتها!، (الدكتورة، سلمى حامد! ... لقد تأخرتي كثيراً)، ضحكت والدتي وأخبرتني أنها تأخرت بسبب اجتماع مجلس الإدارة، وقد عادت للتو إلى مكتبها الذي تحدثني منه أغلب الأحيان في وقت راحتها.

أخبرت والدتي بعدم رغبتي بالعودة في إجازة (الكريسمس)، كانت والدتي متفهمة رغم وجهها الذي كان يعبر عن حزنها لسماع هذا الخبر، ولكنها وعدتني بأن تتحدث إلى الدي وتقنعه بأن أقضي الإجازة في نيويورك!، هي تعرف تماماً أنني أشتاق لهم بشدة، ولكني أفضل الابتعاد عن الجميع حتى إشعار آخر. 

أنهيت مكالمتي مع والدتي وأنا أطبع قبلة الكترونية على الكاميرا وأخبرها بأنني أحبها بشدة ووعد آخر ككل ليلة أنني سأحدثها غداً، ثم عدت لاستكمال واجباتي قبل أن أتجه إلى سريري،،،،، 

Wednesday, December 12, 2012

مقهى السعادة (٢) ،،،،،



دخلت إلى القاعة الدراسية وأنا أرى البروفسور آتٍ من بعيد، حمدت الله تعالى أنني لم أتأخر لأن البروفسور جون مشهور بطرده للطلبة المتأخرين على موعد المحاضرة بطريقة شديدة ومحرجة، تحركت عيناي بتلقائية إلي الصف الأول، الثلاثة كراسي الأولى جهة اليمين، هنا تجلس (جي-هارو-سان) و(أليشا)، هما صديقتيّ المقربتين، تعرفت عليهما في الجامعة، نحن الثلاث نجلس بجوار بعضنا البعض ونعمل على أن تحجز كل واحدة للبقية الكراسي، فإن تأخرت، سأكون متأكدة أنني سأحصل على مكان بجانب صديقتي، وفعلاً كانت القاعة مكتظة بالطلبة ووجدت أنا مكاني كأول كرسي على اليمين. 

وضعت حقيبتي وأنا أحيي صديقتي بطريقة رسمية كأنها من العصور الوسطى (مرحباً جي-سان، والآنسة أليشا، إن اليوم مشمس وجميل)، أومأت صديقتاي رؤوسهما وهن يغلقن أعينهن بطريقة مماثلة للعصور الوسطى أيضاً، ضحكنا جميعاً وجلست مكاني مستعدة للمحاضرة، درسنا اليوم سيكون عن الثورة الصناعية، سيكون الدرس رتيباً وشبه تاريخي! .. دخل البروفسور، أخذ بتجهيز حاسوبه والمواد العلمية دون أن يلقي أي تحية كعادته، وأخذت أنا القلم مستعدة لكتابة الملاحظات،،،


((الساعة الثانية بعد الظهر))

انتهيت من الملاحظات، ثم توجهت إلى غرفة تبديل الملابس في المسرح، وصليت الظهر بينما كانت تنتظرني أليشا في الخارج ، وعندما انتهيت شبكت ذراعي بذراع أليشا، ونحن نتجه إلى "اللوح الجداري" الجداري الخاص بي.

 أليشا هي أول من تعرفت عليه عندما دخلت إلى الجامعة، تعرفنا على الجامعة معاً وتخصصنا معاً، أليشا هندية الأصل، تصغرني ب٦ سنوات أي أن عمرها الآن ٢٠ سنة، وهي من أهدتني حذائي الدافئ، اليشا مرحة جداً وجميلة جداً، لها تلك الملامح الهندية التي نراها في الأفلام، شعرها الأسود الكثيف يتدلى إلى آخر ظهرها، لها بشرة حنطية تميل إلى السمرة وعينان تأسران كل من ينظر إليها، سواد عينيها ووسعهما، وذلك الكحل الأسود الذي لا يفارق عينيها لهما جاذبية غريبة، أما أنف أليشا فهو قصير وناعم، كانت تجذب إليشا الكثير بملامحها المميزة وضحكاتها التي لا تتوقف.

تحب أليشا الرقص والغناء وتحب الرسم والتصميم، لذلك كانت هي أول من شجعني للتحدث مع إدارة الجامعة بالحصول على مساحة خاصة ولوح جداري خاص بي، حيث كانت دائما تساعدني بتصميم هذا اللوح بعد أن أنتهي من جمع المعلومات التي أود أن أعرضها عليه. أما لوحي الجداري هذا هو فقط مساحة تعبير، لكل من يحب أن يعبر ويشارك، تصلني المشاركات في البريد الإلكتروني والصور، فأقوم أنا بتجديد هذا اللوح كل جمعة بمساعدة أليشا.

"هل أحضرتي كوبونات السعادة يا ليلى؟"، هكذا قاطعت اليشا تفكيري عندما وصلنا إلى اللوح، "نعم يا اليشا، ان الكوبونات معي، خمسة كوبونات للحصول على الكعك والقهوة من مقهى السعادة" ... وضعنا حقائبنا جانبا وبدأنا بإزالة محتويات اللوح القديمة ووضع الجديد بينما نتبادل أطراف الحديث،،

"أحب فكرة الكوبونات يا ليلى، كيف أتيت بهذه الفكرة؟"

أجبتها ضاحكة،، "لا أعرف، ربما ذات مساء" ... 

"أنتي تدفعين كل أسبوع قيمة خمس كوبونات،،، ثم تعلقينها هنا على هذا اللوح تحت عنوان (أسعد محتاج)،،، لماذا؟"

أشرت لها باصبعي تحت (أسعد محتاج) لأجعلها تقرأ مرة أخرى ما كتب تحت هذا العنوان الكبير: "في هذه الدنيا أناس لا يحصلون على قوت يومهم، قد يسعدهم الحصول على كوب قهوة ساخن وكعكة دافئة، وفي هذه الدنيا الكثير ممن نحب، نستطيع رفع معنوياتهم بكوب قهوة ساخن، وكعكة لذيذة، إذا كنت تعرف من يحتاج جرعة من السعادة التقط كوبوناً من هنا وأهده له ... أَسْعِد الناس لتَسعد" ... 

قرأت أليشا الكلمات مرة أخرى ونظرت إليَ بنظرة متسائلة، فلم يكن مني إلا أن تنهدت وأدرت عيني بضجر مشاكسةً لها، وفعلا نجحت وغضبت أليشا ورمقتني بتلك العينان الجميلتان نظرة غاضبة وهي تنتظر الإجابة،،،،

"أليشا، يا صديقتي الصغيرة، أنا أأمن أنه من يسعد إنسان في الدنيا، فإن الله تعالى يسعده في الدنيا أو الآخرة، وأنا أحتاج لجرعات كثيرة من السعادة! ولذلك أدخر الكثير منها عند الله تعالى،،، حسناً اعتبريها صدقة، في ديننا الإسلامي الصدقة تطفئ غضب الله،،،، أو أي سبب آخر يا إليشا، أنا أشعر بالراحة عندما أشعر أنني أسعدت شخصاً ما، كما أن جدتي ستسعد أيضاًِ بالحصول على زبائن جدد"

"ولماذا يوم الجمعة بالذات؟"

"لأنه يوم خاص بالمسلمين، أتذكر به أجواء الجمعة في بلادي، وأسأل الله أن يتقبل مني في ساعات الاستجابة،،، فقط أحب الجمعة بكل مافيه، ولازلت أشعر أنه يوم إجازة رغم أنني هنا في الولايات المتحدة،،"

انتهيت أنا وأليشا في تمام الساعة الرابعة والنصف، افترقنا لتذهب هي إلى بيتها وأعود أنا إلى جدتي. في طريق العودة، بدأت بقراءة سورة الكهف من هاتفي المحمول بهدوء، وأدعو الله سبحانه بشدة وإلحاح وإيمان تام، موقنة بأن دعواتي ستلقى طريقها إلى الله، وستستجاب يوما ما. 

كم أتمنى أن تتحقق هذه الأمنيات! انتهيت من الدعاء عندما سمعت صوت الحافلة يتوقف بجانب مقهى جدتي، (آمين) ... هذا كل ما قلته وأنا أنزل ببطيء شديد من الحافلة وابتسامة هادئة ترتسم على وجهي وأنا أتخيل أن أمنياتي قد تحققت! ،،،،،،




،،،،،،،،، يتبع

Tuesday, December 11, 2012

مقهى السعادة ،،،، (١)


شارفت الساعة على السادسة وخمس وأربعون دقيقة صباحاً، أخذت أركض على الدرج بسرعة، تخطيت آخر درجتين وأنا أقفز بنشاط. اتجهت نحو الباب، وضعت شالي الصوفي حول عنقي وأخذت حقيبتي، ثم لبست حذائي الدافئ، كم أحب هذا الحذاء! فهو هدية من صديقتي في يوم ميلادي، هي تعرف كم أحب الأحذية، وخصوصاً هذا، فهو مبطن بطبقة من الفرو الناعم! ..

فتحت الباب لتلمس برودة الجو وجنتي! .. رفعت شالي قليلاً لأغطي نصف وجهي، فأنا لا أحب أن يتجمد أنفي الآن! .. كانت أشعة الشمس تداعب الأشجار والشارع برقة، بالكاد أشعر بوجودها! ففي هذا البرد الشديد لا أستطيع أن أشعر بدفىء أشعة الشمس! .. كنت أمشي بسرعة متوسطة على قارعة الطريق، أفرك يدي تارة ببعضهما البعض، وتارة أخرى أتأكد أنني لم أتأخر، حتى وصلت هنا.. (مقهى السعادة) ...

تأكدت من الساعة! هي الساعة السادسة وتسع وخمسون دقيقة، دفعت باب المقهى وأنا أبتسم بانتصار لتعلن الأجراس وصولي! ... وأتبعتها أنا بتحيتي المعتادة: "صباح الخير يا جدتي! صباحكم بدوني لا يكتمل! وها أنا أتيت لأجعل صباحكم أجمل!" ... ولكن! لم أجد أحداً هنا! ... التفت يمنة ويسرة! لا يوجد أحد! .. كانت رائحة القهوة والكعك لذيذة جداً، تغيرت ملامح وجهي لملامح متسائلة، وأنا أتفقد المكان متجهة إلى الطاولة، أخذت كعكة ووضعتها في فمي وأنا أهم لتحضير فنجان من القهوة لنفسي، وأتمتم: "أين ذهبت جدتي؟ .. هي تعلم أنني لا أستطيع الذهاب إلى الجامعة دون أن أمضي الصباح معها" ...

"ليلى!! مالذي حدث اليوم؟ .. التزمت بالوقت على غير عادتك" وشعرت بيدها تتحرك على كتفي ببطئ شديد، التَفَت لأرى وجهها، هي أقصر مني ممتلئة الجسم ولكن حجمها صغير!، شعرها كستنائي يتخلله الشيب، عينان رمادية وتجاعيد حول عينيها لا تزيد مظهرها إلا طيبة، ترتدي رداء المطبخ الأبيض وقد طبع عليه (مقهى السعادة)، وبخط اخضر صغير (هنا فقط، الكعك والقهوة تجعلك تبتسم)، عندما رأيتها ابتسمت ابتسامة وصلت أذنيّ.

لم أستطع التحدث بسبب الكعكة، والتي قامت جدتي بأخذها من بين شفتاي وهي تهز رأسها وكأنها فاقدة الأمل "ليلى! أخبرتك عدة مرات أن تأكلي وأنتي جالسة، وأن لا تضعي الكعك هكذا في فمكِ!" ... أخذت الكعكة ووضعت ما تبقى منها في فمي، وأنا أحتضنها بقوة! ... حجمها الصغير يجعلني أحب أن احتضانها بشدة حول كتفيها، وهي لا تُحب ذلك، وفي كل صباح أحتضنها بقوة وتقوم هي بدفعي بعيداً وهي تقول "فتاة مجنونة" ...

أَخَذَت جدتي كوب القهوة من يدي، وقَفَزّتُ أنا لأجلس على الطاولة أشاهدتها وهي تضع لي مقدار السكر والحليب المناسب، ثم أخَذَت قطعة أخرى من الكعك ووضَعَتها بجانب فنجان القهوة وصحيفة اليوم، وتَوَجَهت هي إلى مكاني المفضل، تلك الطاولة في الزاوية الزجاجية! بجانبها شجيرات خضراء، وفي الخارج يطل المنظر على مفترق طرق، من هنا، أستطيع أن أشاهد الناس! ...

جلست جدتي على الكرسي المقابل لمكاني المفضل مع قهوتي والكعك، وبنظرة من عينيها انصعت لأمرها! ... ونزلت من الطاولة متوجهة إلى ذلك الكرسي ... وضعت الكعكة مرة أخرى في فمي وأنا أقلب صفحات الصحيفة، فنظرت إلي مرة أخرى فما كان مني إلا ان اخذت اقلب صفحات الجريده بيد، ويدي الاخرى تمسك بالكعك،،،،

- جدتي، لن أقرء الصفحات السياسية لك اليوم! فهي تكرار لأحداث عالمية تتكرر كل يوم! 
- ماذا حدث في الشرق الأوسط؟ 
- مظاهرات، اعتقالات، تفجيرات،،،، 
- فقط؟ .. 
- هذا ما تذكره صحيفتكم... أنظري إلى هنا يا جدتي، أليست هذه صورة المقهى؟ .. وهنا انتِ ولكن صورتكِ بعيدة جدا وصغيرة!!! 
- كيف؟
- القي نظرة:

"تدير هذا المقهى سيدة في العقد السادس من العمر، توجهت إليه بعد أن ازدحم الشارع وأصبح الانتظار في هذا الجو البارد لا يطاق، طلبت كعك محلى وفنجان من القهوة، ويجب أن أقول: قُدِّم الكعك والقهوة إليّ بحب، فعلا كما كتب في زجاج المقهى: هنا فقط الكعك والقهوة تجعلك تبتسم" - سام 

ابتسمت جدتي، ونظرت إلى بتساؤل "أنا لا أذكر هذا الشخص" .... بدأت بقص المقال لها بحذر وأنا أرد عليها: "أنتي انسانة طيبة جداً، آتي إليك كل صباح لآخذ جرعة من السعادة قبل أن أتوجه إلى الجامعة، أنتي يا جدتي تحملين قلباً نقياً، يجبرنا أن نبتسم رغم ما سنواجهه بعد أن تُقرَع أجراس بابكِ معلنة رحيلنا... جدتي عندما أعود إن شاء الله سأعلق لكِ هذا المقال على ذلك الجدار" ....

وضعت المقال في حقيبتي وانا اكمل الكعكة بسرعة، فقد تأخرت ... لم يبقى على موعد الحافلة سوى دقائق، أخذت كوب القهوة واقْتَرَبْتُ من جدتي لتطبع قبله دافئة بين عيناي "أتمنى لك يوماً سعيداً يابنتي" .. وعندما هممت للخروج كانت الحافلة قد توقفت أمام المقهى، وقد دخل البعض منهم ليحصل على جرعة من السعادة. لوحت لجدتي وأنا أركب الحافلة، ثمجلست في أول مقعد بجانب النافذة، يا الهي!! ان الجو بارد جداً! ... 

نصف ساعة هي المدة المتوقعة للوصول إلى الجامعة، في هذه النصف ساعة استذكر بعض الدروس أحياناً، وأحيان أخرى لا أشعر بالطريق وذلك لانتقالي تماماً إلى عالم آخر، لا تتحرك عيناني عن النافذة وأفكر بحياتي، أنا لست صغيرة في السن، عمري ٢٦ سنة، لم تسمح لي الفرصة لإكمال دراستي الجامعية بسبب ظروف عائلية، أنا وحيدة هنا في الولايات المتحدة، بالأخص في مدينة نيويورك، حصلت على منحة دراسية بعد طول عناء، هنا لا يعرف الكثير من الناس أنني عربية، ولكنهم يعرفون أنني مسلمة بسبب حجابي، جدتي هي ليست جدتي البايلوجية! التقيت بها عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة قبل ٤ سنوات في إجازة الصيف مع عائلتي، فشقتنا كانت في المبنى المقابل لها! فكنت ازورها كل صباح، وعندما عدت للدراسة، لم يكن هناك أي شخص بالغ-عاقل-طيب-حنون أستطيع الثقة به إلا هي! .. أقرأ لها عناوين الصحف كل صباح، هي تستطيع القراءة والكتابة! ولكن أحب دائما أن أقرء لها العناوين! .. تعاملني هي كوالدتي إن صح التعبير! توجهني توبخني وأيضاً تعتني بي! .. أقضي العطلات معها ومع عائلتها، وتتقبلني هي ... بحجابي ... ! "سيدتي .. هل ستنزلين هنا؟ انها محطة الجامعة" ... أيقظني صوت السائق .. ابتسمت له ونزلت من الحافلة وأنا أنظر إلى كوب القهوة الفارغ! ... يا الهي! متى انتهيت منه؟ .... 



.... يتبع،،،،