استيقظت باكرا هذا الصباح رغم تقلبي في الفراش طوال الليل، ولسبب ما، فقد شعرت بنشاط غريب يسري في جسدي وثقل مزعج في عينيّ، نعم كنت أود أن أنال قسط طويل من الراحة ولكن لا أعرف سبباً لهذا النشاط. قررت أن لا أعذب نفسي أكثر فقد مرت ساعات طويله وأنا أحاول النوم.
استيقظت وأعددت قهوتي وسقيت النباتات وكشفت عن نوافذي الشرقية لأسابق أشعة الشمس، أحب مشهد أشعة الشمس وهي تشرق على مكتبة الكتب ونباتاتي! وأحب أن ألتقط صورة لقهوتي وقد انعكست عليها أشعة الصباح. هل قلت أسابق؟ نعم .. لأن هذه الاشعة هي من تبدأ لسباق مع الوقت.
حاولت التواصل مع أصدقائي ولكن جميع رسائلي "لم تقرأ"، مما أشعرني بالضجر والملل الشديد، ولكن برودة الجو الصباحية كانت حافزا لي لأن أخذ جولة صباحية في أنحاء الحي، أنا جديدة هنا ولا أعرف أحداً. لم أجد خلال جولتي الا عدد قليل من كبار السن الذين يجلسون في الباحة الأمامية للمنزل، منهم من يشذب الازهار ومنهم من يتناول كوب قهوة، وجميعهم عندما تلتقي نظراتي الفضولية بأعينهم فيومئون لي مبتسمين، تحية لطيفة!
يعتني الكثير من أهل هذا الحي بنظافة بيوتهم الخارجية والتصميم والحدائق، وهذا ما شجعني لاستئجار منزل صغير أشبه بشقة هنا. مازالت أشعة الشمس باردة جدا فهي لم تشرق بشكل كامل، والهواء نظيف وعليل فقد اقترب فصل الخريف وبدأت الحرارة بالانخفاض.
أمتعني صوت الجرس الصغير عندما دخلت إلى مقهى صغير في إحدى الأزقة المرصوفة، ألقيت نظرة سريعة فلم يكن هناك أحد غيري مما جلعني أختار الطاولة الصغيرة في زاوية المقهى بجانب النافذة، والتي تطل على الممر المرصوف. ابتسمت لهذا المنظر، الأرضيات المرصوفة، شرفات المنازل ذات الازهار والشجيرات المعلقة، أشعة الشمس الباردة في الصباح الباكر ورائحة القهوة، ابتسمت حقاً لأنني أخذت هذا القرار، قرار بأن "أنقرض" مع نفسي لمدة من الزمن، أعيد فيها حساباتي، أضع أهدافي، وأستمتع بحياتي.
اسندت رأسي إلى كف يدي، وحمدت الله كثيراً على نعمه، وعلى هذه الفرصة لتجديد حياتي، وفكرت في أول هدف سأنفذه في رحلتي هذه، وهي (الاستكشاف)، أن أجرب اشياء جديدة خارج نطاق راحتي ومعرفتي، فبدأت البحث في البرامج المتاحة، للبحث عن "تجربة" جديدة، وبدأت الاطلاع على الكثير من التجارب الذي يوفرها السكان المحليون، وأعجبتني تجربة صناعة الفخار! .. وهنا سجلت في اول موعد قريب بعد ساعتين.
وصلت إلى المكان الذي كان في باحة خلفية لأحد المباني، ثم نزلت إلى مستوى أرضي عدة درجات، تم تقسيم المكان بين مكان لبيع الفخار، ومكان للتسجيل والاستعداد ومكان لممارسة صناعة الفخار. انتهيت من اجراءات التسجيل واخترت نوع الاواني التي اود صناعتها ومدة هذه التجربة.
كنت وحدي هنا، لم يكن معي احد، كان شعور غريبا ان اذهب لتجربة شيء جديد لوحدي، رغم ان المتواجدين هنا ايضا كانوا لوحدهم! .. هل يحبون صناعة الفخار؟ هل لديهم هدف "الاستكشاف" مثلي؟ أم أنهم هاربون من زحمة المدن؟ .. لم يكن هناك أي مجموعات سوى رجل يرافق زوجته ويشجعها وهي تصنع آنيتها المفضلة.
اخترت المكان المفضل، وبدأت مدربتي أولا بشرح كيفية صناعة الفخار .. والجهاز المستخدم .. .. بدأت تخبرني كيفية تشكيل الطين واضافة الماء و الضغط بالأصابع لتشكيل الأواني.. كل ذلك وانا اشاهدها بتركيز بعد ان ثبت الكاميرا امامي لتسجيل تجربتي هذه.
كل ما كانت تشرحه لا يصف الشعور عندما وضعت اصابعي على الطين السلس لأول مرة، ابتسمت من قلبي لملمس الطين الناعم، الذي يزداد نعومة وليونة كلما اضافت إليه كمية من الماء، تركتني لمدة ربع ساعة لـ" أتعرف" على عجينتي الطينية، لأفهمها وتفهمني! لأعرف كمية الماء .. لتعتاد يداي على الطين، كلما كانت تدور العجينة كانت تتغير بلمسة واحدة! .. يجب أن أكون أكثر استرخاءً! أكثر تركيزاً ... يجب أن لا تشتتني أفكاري وهمومي، بل ان كل ذلك بدأ بالتبدد عندما ضغطت بابهامي على الفخار .. وبدأت بتشكيل الكوب الذي اخترته، كانت مدربتي تضحك على ردة فعلي المتفاجىء لكل رد فعل يحدث عندما اضغط بشدة او اقل على الطين .
تبدو هذه الحرفة سهلة جدا عندما ترى الحرفيين يشكلون الاواني الطينية! ولكن ما ان تضع يدك على هذه العجينة ستعرف انها تحتاج الى تركيز ووعي وتحتاج الى هدوء و "مزاج رايق" والا ستكون النتيجة اواني فخارية ابداعية "غريبة الشكل بمعنى أصح" .. ساعدتني مدربتي لتقويم الشكل الذي رغبت به وتشكيله! .. واخرجت حزام جلدي صغير في النهاية لتنعيم السطح الخارجي والداخلي للاناء حيث اخبرتني انه من جلد البقر! .. وقطعت الطين بخيط رفيع لتفصله.
نظرت الى يديّ .. كمية الفوضى التي أسعدتني! الوقت الذي مر بسرعة ولم اشعر به! .. اللطخات الطينية على المئزر .. كلها كانت تجربة جميلة .. متأكدة انها لن تكون الأخيرة ..