استيقظت الساعة الخامسة صباحاً على صوت المنبه، أخذت نفساً عميقاً وأنا أحتضن وسادتي بكسل شديد، هنا في نيويورك أفتقد بشدة صوت الأذان، حيث أنني اعتدت على الاستيقاظ على صوت الأذان في مدينة أبوظبي دون الحاجة إلى منبه، وذلك لقرب المسجد من منزلنا.
أما هنا فقد اضطررت لاستخدام المنبه، بالنسبة لي لا يوجد تنبيهين بصوت واحد، فلصلاة الفجر يكون صوت المنبه زقزقة عصافير وصوت حفيف الأشجار، هكذا أستيقظ براحة دون فزع. بينما إذا كانت لدي مهام صباحية فالمنبه يكون بصوت أعلى ومزعج قليلاً، أما حينما يحين موعد الصلاة فإن لدي برنامجاً خاصاً قد ضبطت إعداداته لينبهني بصوت واحد فقط (تيت)! ..
تقلبت قليلاً على فراشي الوثير، استرجعت ما حدث البارحة، وراجعت بشكل سريع خطتي التي سأنفذها اليوم، كل ذلك على صوت حفيف الأشجار الذي سمعته عدة مرات أخرى لكسلي الشديد فالاستيقاظ، هذا رغم أنني قد نمت باكراً جداً على غير العادة وهنا تذكرت أنني لم أنتهِ من مهامي الدراسية؛ ولذلك قررت عدم العودة إلى فراشي بعد أداء الصلاة! ..
بعد أداء الصلاة وضعت سماعات "الايبود" في أذني وأنا أردد أذكار الصباح مع العفاسي، وفي نفس الوقت أعد لنفسي كوباً من القهوة وشطيرة من الجبن الذائب، انتهيت من تناول فطوري مع انتهاء الاذكار، وهنا وبتردد وخجل بيني وبين نفسي انتقلت من قائمة الأذكار إلى قائمة صباحات فيروزية قمت على أنغامها بترتيب غرفتي وتنظيف الأطباق وتجهيز جو الدراسة.
كانت خطتي كالتالي: أنتهي من الرتوش النهائية لآخر بحثين، أرسل بريد إلكتروني لجي-سان أذكرها بوضع الرتوش الأخيرة في بحثنا الأخير لتكون هي المسؤولة عن تسليمه، أذهب لمقهى السعادة وأشتري بعض الكعك المحلى لأحمد .. هممم حسناً لا استطيع أن أعطيه فاصل الكتب وحده! ولذلك قررت أن أهديه بعض من كعك جدتي الذي تعده خلال (الكريسماس) بأشكال جميلة وملونة .. ثم الذهاب إلى الجامعة رغم أنني لست مرتبطة بأي محاضرات إلزامية خلال الأيام المتبقية! .. هو فقط .. الفضول .. الشوق؟ ... لا أعرف .. في الحقيقة أردت أن أرى .. أحمد ..
عند الساعة التاسعة كنت قد انتهيت من آخر الرتوش الخاصة بدراستي، حتى أنني سلمت آخر بحثين عن طريق البريد الإلكتروني، ويتبقى فقط البحث الأخير الذي ستسلمه جي-سان، الآن لدي متسع من الوقت للتحضير للإمتحانات والتسوق قبل العودة إلى الدولة. أخبرتني إيليشيا أنها ستكون في الجامعة بعد الساعة العاشرة والنصف، ولذلك بدأت الاستعداد للذهاب.
اخرجت ملابساً عديدة كنت أبدل ما بينها! في كل مرة أجرب قميصاً أغيره باحثة عن الأجمل وهكذا مع بقية الملابس، حتى استقريت على قميص أسود ذا عنق مرتفع، ارتديت فوقه كنزة صوفية بلون قمحي أنيق وشال ذو أشكال هندسية بعدة ألوان منها القمحي والأسود، و"جينز" أسود، وأكملت ملابسي بحذائي الجلدي الأسود الطويل والمبطنة أطرافه بالفرو ، عندما ألبس هذا الحذاء أشعر أنني أنيقة حيث أنه يضيف بضعة سانتيمترات إلى طولي.
ابتسمت عندما رأيت نفسي في المرآة "لمسات أخيرة" لم أكن أضعها سابقاً إلا في المناسبات، أخذت حقيبتي ثم اتجهت إلى جدتي التي ما إن رأتني حتى قالت (ليلى! تبدين سعيدة اليوم!) .. كلا يا جدتي! أنتي لا ترين السعادة في وجهي فقط أنتي ترين "الماسكرا، حمرة الخدود، وأحمر الشفاه الزهري"، ابتسمت لها وشكرتها، ثم أخذت منها الكعك وتوليت أنا تغليفه في علبة صغيرة وأوراق ملونة، فلا تمانع جدتي أن أخدم نفسي بنفسي في مقهى السعادة، ثم وضعت اللمسة الآخيرة وهي اللاصق الذي كتب عليه (هنا فقط الكعك والقهوة تجعلك تبتسم) ..
في الحافلة لم أكن أنظر لشوارع مدينة نيويورك مثل كل مرة، لم يشرد ذهني مع زينة الكريسماس ولوحات الشارع، بكل كنت أنظر إلى إلى علبة الكعك وأنا أبتسم .. يا ترى هل ستبتسم يا أحمد عندما تتناول كعك جدتي؟ .. هل ستتقبل هديتي؟ .. وكلما تعمقت في أفكاري كانت تتسع ابتسامتي معها، ابتداءً من هذه العلبة الصغيرة وحتى استلامه لها، توقفت الحافلة بالقرب من الجامعة وأخفيت علبتي الصغيرة في الحقيبة.
التقيت إيليشيا وجي-سان أمام باب الجامعة، لم تستطع إيليشيا أن تهدأ طوال الطريق إلى المسرح، فهي تلمس خدي، وتمسك بحقيبتي وتدور حولي وتنظر إليّ بتلك العينين الجميلتين بلؤم شديد وهي تسأل (لماذا كل هذا اليوم يا ليلى؟، تبدين جميلة جداً، هل كل هذا لأحمد؟ ... إلخ) من جميع أنواع الأسئلة المحرجة التي أعرف مسبقاً أنها تعرف إجابتها تمنيت ألا تواجهني بها، أما أنا فكنت أتحدث مع جي-سان عن اخر مشروع دون أن أرد على إيليشيا، التي تعرف بأنني لا احب أن أضع سوى حمرة الخدود عندما أشعر أنني شاحبة بعض الشيء! ..
عندما دخلنا المسرح، كان قلبي ينبض بشدة كنت أرى وجه أحمد في كل شخص يمر أمامي، أبحث عنه بين الناس بعينين فضوليتين ولم يقطع عملية البحث إلا استئذان جي-سان للذهاب للقسم الياباني التي وعدناها أن نلقي إليه نظرة لاحقاً، أما أنا فذهبت مع إيليشيا إلي الكشك رقم (٢٥)! حسناً!! إنه قريب من القسم الإماراتي لذلك أفزعتني إيليشيا البارحة! ...
البارحة! .. كانت هذه الأكشاك عارية من الزينة! أما اليوم فأنا أشعر كأنني في مكان آخر، كأنني في (القرية العالمية) في دبي ولكن بشكل مصغر، من المذهل كيف استطاع الطلاب أن ينجزوا هذا الكم الهائل من التجهيزات خلال هذه الفترة القصيرة جدا.
- ستتفاجئين بي غداً يا ليلى ...
- حقا إيليشيا؟ لماذا؟
- لن أخبرك، ولكن سترينني بشكل مختلف تماماً، مؤكد أن الكشك رقم ٢٥ هو الذي سيفوز ..
- ربما يفوز الكشك رقم ٣٢ (وانا ابتسم)
- أي دولة؟
- الامارات
- يستحيل أن يفوز كشك دولتكم على دولتنا، نحن فوزنا محقق سترين ..
ابتسمت لإيليشيا ابتسامة شقية جداً فما كان منها إلا الضحك وهي تضربني على كتفي قائلة (أنتي تقصدين أحمد وليس الكشك! بهووووت مشكلهي ليلى!)
حين وصلنا إلى القسم الهندي كان زملاء إيليشيا يرقصون على أنغام أغنية هندية وقد تجمهر حولهم عدد من الطلبة، وهنا زاد الادرينالين في دم صديقتي الصغيرة فعلقت حقيبتها على رقبتي وذهبت لترقص بين زملائلها بشعرها الأسود الطويل وبتلك الطاقة المرحة جذبت عدد أكثر من الجماهير حولهم وكنت استطيع أن أستمع لتعليقات الطلبة من حولنا حول صديقتي وجمالها ورقصها.هنا أخذت أصور إيليشيا (فيديو) وأنا أضحك وأصور الطلبة من حولها، أما إيليشيا فكانت مندمجة بالرقص هي وبقية أصدقائها والتحق بهم بعض الطلبة الأجانب في جو مرح جداً.
(أوووه! والله مافيها حيلة الهندية) ... أعرف هذا الصوت جيداً، أستطيع أن أميزه بين جميع الأصوات .. فكان صوته كصعقة كهربائية سرت في كل خلايا جسدي، ومع هذه المفاجأة سقط الهاتف من يدي، التقطه ورفعت رأسي ... يقف أحمد إلى جانبي .. يشجع إيليشيا ويصفق بحماس وهو يرتدي كنزة زرقاء وتحتها قميص أبيض يطويه حتى نصف ساعده ..
وبلغة إنجليزية هادئة تبادلت معه أطراف الحديث ..
- قلت لك أن لا تتحدث معي هكذا ...
- أنا أعتذر ولكن لا يوجد هنا الكثير من العرب! ...
- أنت ستفضحني (بنظرة بائسة) ...
- وهل تخجلين من كونك عربية؟ إماراتية؟ ..
- يا إلهي كلا!! .. ولكن لديّ أسبابي الخاصة! ...
تقترب صديقتي الصغيرة بابتسامة واسعة وتخذ حقيبتها وهي تلتقط أنفاسها:
إليشيا: أحمد! مرحبا! (تنظر إلي ايليشا انها لن تمد يدها) ..
أحمد: رقصك رائع يا إيليشيا! ...
عضضت على شفتي السفلى لأمنع نفسي من الحديث أو التعبير بملامح وجهي عن استيائي، شعرت بنوع من الغيرة عندما اثنى على رقص إيليشيا! ،،،
إيليشيا: أحب الرقص جداً ...
أحمد: هذا جيد، أبهرتي الجميع ...
إيليشيا: لذلك سوف نفوز عليكم غداً ...
أحمد: لكم رقصاتكم ولنا أجواءنا الخاصة، نحن من سيفوز
إيليشيا: سأذهب لأساعد زملائي، فهناك الكثير لننجزه، هل انتهيتم؟
أحمد: سننتهي قبل حلول المساء، سنكون جاهزين غداً ...
كنت أشعر أنني وحيدة هنا دون إنتماء لشيء! ... فالكل مشغول بالترتيب والتزيين والتجهيز، وأنا أتجول هنا بين عدم المشاركة في القسم الإماراتي وعدم تقديم المساعدة لإيليشيا وجي-سان! وبينما أحمد وإيليشيا يتبادلان أطراف الحديث شعرت بأحد يلمس كتفي، ورغم انشغال أحمد بالحديث مع إيليشيا إلا أنه التفت معي في ذات الوقت ليرى من لمس كتفي ...
- أوه أنتي هنا يا ليلى!!!!
شعرت هنا بدقات قلبي تنبض بتوتر، تبادلت النظرات بينه وبين أحمد الذي كان ينظر إليّ كأنه يستفسر عن هذا الشخص ... أخذت نفساً عميقاً ...
- أهلا ... تيد! ...